التاريخ بين حدين: التأبين أم التخليد!

الوطن البحرينية 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

يقول الواقع إن تاريخ الإنسان هو صنيعة حاضره، وإن العاقل هو من ينظر إلى التاريخ كحافز لبناء المستقبل، لا كعبء يُضطر في كل مناسبة إلى تبييض صحائفه أو تلفيق حقائقه؛ فيخاصمه حينها ماضيه ويتوعده باستنساخ أخطائه.

والتاريخ، الذي وصفه ابن خلدون بقوله: «إنه في ظاهره لا يزيد عن الأخبار، ولكن في باطنه نظر وتحقيق»، قد ارتقى في مقدمته إلى علم فلسفي قائم بذاته، ليس لدراسة أحوال البشر فقط، بل لاستنباط معاني تلك الأحوال ووضعها تحت المراقبة في مختبرات الزمن، بحيث تتمكن قواه الفاعلة من اقتباس أفضل التجارب وترك أسوئها.

«الفعالية التاريخية» لابن نبي

هناك وصفة سرية - إضافية - لإبقاء التاريخ دافعاً لصحوة الوعي الإنساني وللتعاطي المسؤول مع تحولات العصر، لتجنب السقوط في خانة المنسيين حضارياً.

وجدتُ هذه الوصفة في أعمال الجزائري مالك بن نبي، أحد أبرز مفكري القرن العشرين، والتي أسماها «الفعالية التاريخية»، واعتبرها المقياس الحقيقي لفعالية الأمم الحية في واقع الأحداث، بدلاً من أن تكون مجرد متلقٍ لها. وفي المقابل، ينبغي لإنسانها أن يرتقي بوعيه ومفاهيمه وتفاعلاته مع محيطه، حتى لا يقع فريسة واقع يستنزف حقه في الوجود.

نظرياً، يرى ابن نبي، الذي ركّز جوهر أعماله على «إصلاح الإنسان» كمعيار لبناء مجتمعات إسلامية متفوقة بالمقاييس الحضارية، أن تبني مفهوم «الفعالية التاريخية» في حياة المجتمعات وتفاعلاتها الإنسانية يجعلها «صانعة» للحضارة ومتمكنة من تحقيق النهضة، متى ما التزمت بشروط النهوض الأربع: تحضُّر الوعي الإنساني، إنتاج الأفكار وتطبيقها، الاستثمار المبتكر للموارد، واحترام وقت العمل.

الحسم التاريخي: قارب النجاة

أما واقعياً، ومن وجهة نظرنا، فإن هذه الوصفة المثالية لـ «الفعالية التاريخية» يجب أن تقترن بما يمكن تسميته بـ «الشجاعة التاريخية» أو «الحسم التاريخي»، لعزل تيارات المجتمع الرجعية والظلامية التي تضعف إرادة أفرادها، وتدفع بهم إلى الوهن واليأس والانسلاخ عن الواقع، متجاهلةً غضب التاريخ على أولئك الذين يتخبطون في تحدي سننه، ويفشلون أو يتجاهلون قراءة متغيراته.

وأعتقد أن التحلي بالشجاعة التاريخية في مثل هذه المواقف يتطلب قدرة خارقة لتجاوز الأنا المتصلبة والمزايدة، التي نراها متجسدة في حالات بعينها في الواقع العربي، كتلك التي تتبنى فكرة المقاومة المسلحة خارج نطاق الدولة الشرعية، والتي لا تعترف بها أصلاً، ولا تدرك، بدورها، متى تتوقف عن «تبييض» أفعالها والادعاء بالتفوق على حساب ضحاياها، كما تصر على إعادة الصراعات التاريخية وتأجيجها، بدلاً من توجيه إمكاناتها للانخراط في معارك البناء لا الهدم.

القضية الفلسطينية: أولوية الحسم

إن عامل الحسم في هذه المرحلة التاريخية الحرجة لمعالجة القضية الفلسطينية بات فرض عين على جميع الأطراف الفاعلة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات المزيد من الأوان. إذ لم تبقَ مهانة إلا ووقعت، ولم يبقَ ذل إلا وتم، وما زال مصير الملايين متروكاً لمهب الريح.

لذلك، فإن الالتزام بالوعود والعهود في الشأن الفلسطيني لإخراج «القضية» من مأزقها يُعد أولوية الأولويات، وعلى الحكماء أن يعيدوا «اتفاق بكين» إلى النور مرة أخرى، من أجل تحقيق وحدة وطنية فلسطينية «فعلية» وطارئة، تفرض نفسها كوجه شرعي للحق الفلسطيني، وترفع عن جسد «القضية» ثقل وبؤس وعذابات السابع من أكتوبر، وكل ما مضى من هزائم.

ومن دون هذه الخطوة، التي هي ليست سهلة، سيستمر المستفيدون من التأزيم في التأجيج، والمتبجحون بالاستهانة بـ «حل الدولتين» بذريعة انقسام البيت الواحد على نفسه، أما المساكين فأمرهم موكول لرب الأسباب.

ختاماً: التاريخ لا يرحم

في نهاية المطاف، لا بد من تضحيات تاريخية ترتقي إلى مستوى هذه الكارثة الإنسانية، كي لا يموت التاريخ حسرةً على ما مضى. فالتاريخ، كما هو شاهد عيان على الماضي، يظل أيضاً حكماً صارماً على حاضر الأيام ومستقبلها. والشاطر من يتعلم من تجاربه!

*عضو مؤسس دارة محمد جابر الأنصاري للفكر والثقافة

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق