سأستعير هذه العبارة المستوحاة من مقال الكاتب والروائي الراحل ماريو بارغاس يوسا (1936-2025) الذي رحل عنا منذ يومين في العاصمة البيروفية ليما. ففي مقاله المنشور في صحيفة الشرق الأوسط في يناير الماضي عنون يوسا مقاله «خورخي أمادو في الجنة» قائلا: «يا لها من بلاد رائعة تضاهي شهرة الأدباء فيها شهرة نجوم كرة القدم! لكن سرعان ما تنبّهت أنها ليست شهرة عموم الأدباء، بل شهرة خورخي آمادو (1912-2001)». وعلى ذلك ننحت ليوسا العنوان أعلاه المستوحى من روايته الفردوس على الناصية الأخرى، التي خصصها للمرأة المناضلة فلورا تريسان وحفيدها بول غوغان.
أغلق رحيل يوسا سجل الواقعية السحرية في أمريكا اللاتينية التي يعد أحد صُناعها مع غريمه وصديقه اللدود الكولومبي جابريال ماركيز (1927-2014) والتشيلي خوسيه دونوسو (1924-1996) والمكسيكي خوان رولفو (1917-1986). يوسا ذاته الذي لكم صديقه ماركيز لكمة ستبقى أسبابها مجهولة إلى الأبد بعد رحيل صاحبيها ماركيز ويوسا الذي ذكر أن فكرة رواية (الجميلات النائمات) للروائي الياباني ياسوناري كاواباتا (1899-1972)، التي كتب مقدمتها ماركيز وتمنى لو كان كاتبها مأخوذة من قصة أبيشج الشونمية في الكتاب المقدس لفتاة تحضن الملك داود لكي يشعر بالدفء. وهذا ما أورده الكاتب والروائي عزت القمحاوي في كتابه (الطاهي يقتل والكاتب ينتحر).
أكاد أن أقول بأنني قرأت جل أعمال يوسا المترجمة إلى العربية، بدءا برواية (بنتاليون والزائرات) وإلى (شيطنات الطفلة الخبيثة)، التي أنهيت قرأتها مؤخرا. اقتنيت ثلاثة أعمال له حين لمحت رواياته في مكتبة النوري بدمشق سنة ٢٠١٠ في العام الذي نال فيه جائزة نوبل للآداب. ورغم كل مباهج الحياة في دمشق حينها. فإنها لم تأخذني من رواية يوسا التي اكتشفت فيها لذة السرد وغواية سير الشخصيات وصيروراتها. مع يوسا نكتشف قدرة المترجم الفلسطيني الراحل صالح علماني (1949-2019). أنهيت قراءة رواية بنتاليون في دمشق، وبقيت لدي روايتا (حفلة التيس) و(البطل المتكتم). لاحقا أصبحتُ اقتني روايات يوسا واقرأها، مرة أخذت من مطار الكويت روايته (مديح الخالة) وأنهيتها في يومين. ومرة وجدت روايته (البيت الأخضر) مترجمة إلى اللغة الألمانية (das grune Haus) على رصيف شارع (Augartenstrasse) بمدينة مانهايم الألمانية، ولم آخذها. وحين أخبرت زميلا بذلك قال لي إنها متروكة لمن يود أخذها، إذ جرت العادة في ألمانيا أن تُترك على الأرصفة الحاجيات المُستغنى عنها. حينها خرجت من حصة اللغة واتجهت مباشرة إلى الرصيف فوجدت الرواية كما هي على الرصيف وأخذتها، ومع بداية جائحة كورونا تركت الرواية في شقتي في ألمانيا مع عشرات الكتب التي ستأخذ طريقها إلى الرصيف ليلتقطها أحد المارة. عودة إلى «البيت الأخضر» فإنها الرواية الوحيدة ليوسا التي لم أتمكن من إنهاء قرأتها إلى الآن. ويعود ذلك لمترجم النص المترجم السوري رفعت عطفة (1947-2023) الذي فقدتُ في ترجمته متعة التشويق المعهودة في روايات يوسا. فالقارئ المطلع على أعمال يوسا يتعرف على طريقته السردية في بناء الرواية وإيجاد الترابط بين الأحداث التي تتزامن أحيانا، باستثناء روايته (حلم السلتي) المستوحاة من سيرة المناضل الإيرلندي الثوري روجر كيسمنت (1864-1916) الحاصل على عدة أوسمة ملكية بريطانية قبل أن تعدمه المملكة المتحدة بتهمة الخيانة.
أما روايته (البطل المتكتم)، فلي معها حكاية أخرى وفي ألمانيا أيضا، فقد قرأتها في الحافلة المتجهة من مدينة مانهايم إلى مدينة أوغسبورغ. وكذلك فعلت في الرجوع وحين نزلت من الحافلة لم أستطع الانتظار حتى وصولي إلى البيت وأكملها، إذ جلست في محطة الحافلات وأنهيت قرأتها. اكتشف لاحقا أن الرواية تتقاطع أحداثها مع سيرة الكاتب الحقيقية حينما انفصل عن زوجته وقريبته باتريشا، ليقترن بعارضة الأزياء الأسبانية والفلبينية الأصل إيزابيل بريسلير، قبل أن يتركها ويعود إلى مدينة ليما مع زوجته السابقة وأم أولاده.
أما روايته (حفلة التيس) فهي سفر من أسفار كشف الديكتاتورية في العالم وتعرية أبطالها وكشف تغول الشخصيات المستبدة وأساليبها في إذلال الإنسان واحتقاره، ماريو ذاته الذي حاول الوصول إلى كرسي الرئاسة حينما ترشح لرئاسة البيرو عام 1990. وحسنا خسر الانتخابات وإلا لحرمنا -فخامته- من أعمال أدبية خالدة، هي «ثمرة عبور الإنسان بين ما هو وما يريد أن يكون»، مثلما تحدث في كلمته حينما تسلم جائزة نوبل للآداب. قرأتُ مقالاته المنشورة في صحيفة الشرق الأوسط وأعترف له بفضل التعرف على كُتّاب وأعمال أدبية لم نطلع عليها، كما أحببنا كلماته عن المدن التي أحبها الكاتب سرديا وواقعيا مثل برشلونة وباريس وبرلين وبيروت أيضا. مؤلم أن يرحل كاتبك المفضل لا لكون الخلود ليس من صفة البشر، ولكن لأن الكاتب ذاته توقف عن مواصلة الحكاية. فوداعا يا يوسا، وداعا أيها البطل المتكتم.
0 تعليق