نجيب رزق الله.. مصري صنع أعذب الألحان الكويتية عازف أساسي مع أم كلثوم رائعة «صوت السهارى» مع الدوخي

عكاظ 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
وُلد رزق الله في مصر لعائلة صعيدية من محافظة المنيا في العشرية الثانية من القرن العشرين، على ما أعتقد، وعشق الموسيقى والعزف على الكمان منذ سنوات صباه، فمارس العزف هاوياً ثم تعلمه بالقاهرة على أيدي كبار عازفي الكمان المصريين في زمنه، فأجاد وأبدع إلى درجة أنه لفت أنظار السيدة أم كلثوم، التي ألحقته بفرقتها الموسيقية كعازف أساسي ليعمل معها على مدى عشرين عاماً. كما أنه عمل مع الموسيقار محمد عبدالوهاب كعازف كمان أكثر من عشر سنوات. هذا ناهيك عن أن الرجل تميز بصوت جميل، فمارس الغناء أيضاً في بدايات مسيرته الفنية لكنه تركه ــ لسبب ما ــ ولم يواصل، مركزاً جهده على العزف والتلحين بدليل أنه ساهم في تلحين الكثير من الأغاني للعديد من المطربين الكويتيين وزملائهم العرب ممن زار الكويت إبان السنوات الـ14 التي عمل فيها بالكويت كمؤسس وقائد لفرقة الإذاعة الموسيقية وأيضاً كعضو في لجنة إجازة المطربين بالإذاعة.

ولعل أكثر مطربي الكويت من الذين غنّوا لرزق الله، وتمتعوا بصداقته ومجالسته واستفادوا من علمه هو الفنان الكبير عوض الدوخي (1932 ــ 1979) الذي غنى له 13 لحناً، من أبرزها: «اسأل العشاق» و«الحيرة» و«على حبي تريد شهود» (كلمات خالد جاسر العياف) و«اليوم وصلني كتاب» (كلمات سلطان عبدالله السلطان) و«الغيرة سبايب» و«يا ماشي عنا» (كلمات محمد محروس) و«إيش سوى الدهر فينا» (كلمات عبدالعزيز شهاب) و«أمام الناس» (كلمات علي الربعي) و«قلبي ما يطاوعني» (كلمات سلطان عبدالله السلطان) و«ويح قلبي» (كلمات عبدالله عبداللطيف العثمان)، و«هجرني وطالت المدة» (كلمات ابن الوطن). علاوة على أغنية «رد قلبي» المعروفة أيضاً باسم «لا تخاصمني» (كلمات يوسف الدوخي)، التي تجلت فيها عبقرية رزق الله في اللحن والكوبليهات العديدة المتنوعة.

نشر المؤرخ الفني الأردني الأستاذ زياد عساف في صحيفة «الرأي» الأردنية (24/‏ 2/‏ 2021) مقالاً مطولاً عن تاريخ الأغنية الكويتية، واصفاً إياها بـ«إضافة نوعية للغناء العربي». بدأ عساف مقاله قائلاً: «إن أساطين النغم في الكويت ممن أراد لهم ذووهم احتراف الغطس بهدف العودة باللآلئ الثمينة اختاروا مساراً مختلفاً لحياتهم وعادوا لنا متوجين بلآلئ الألحان والأنغام (في إشارة إلى أن مطربي الكويت الأوائل كانوا نتاج التحاقهم بالعمل على مراكب صيد اللؤلؤ وتأثرهم بأغاني البحر والنهمة)، ما شكل إضافة نوعية لمسيرة الأغنية العربية حين كانت في أوج ازدهارها وتألقها، لتغدو الأغنية الكويتية مرجعاً ثرياً للأجيال اللاحقة». ثم مضى يقول ما مفاده، إن الشغف صنع خيرة مبدعي الغناء والموسيقى في الكويت، موضحاً أن الشغف واللهفة دفعاهم لاستراق السمع للأغاني المنبعثة من المقاهي الشعبية عبر جهاز الأسطوانات القديم، وأجبرت ظروف الفقر بعضهم لادخار قروش قليلة لاستئجار جهاز التسجيل من صاحب المقهى والاستمتاع بما طاب لهم من أغانٍ بأصوات عمالقة الطرب العرب.

ذهب عساف بعد ذلك يعدد نماذج من رواد الغناء في الكويت، ممن ظهروا في العقود الأولى من القرن العشرين وعانوا الأمرّين وسط مجتمع رافض لفكرة الغناء من منطلق أنه يتعارض مع الدين والعادات، وهو ما جعلهم يمارسون الغناء والعزف سراً، أو يرتحلون بعيداً تجنباً للاصطدام مع مجتمعهم وذويهم، أو يقدمون أنفسهم بلقب مستعار (كما فعل «عبداللطيف عبدالرحمن العبيد»، الذي سمى نفسه «عبداللطيف الكويتي»، وكما فعل لاحقاً «عبدالعزيز المفرج» الذي اختار لنفسه اسم «شادي الخليج»)، فأتى على ذكر الفنان عبداللطيف الكويتي الذي لم تمنعه إصابته بالشلل من التعاقد مع شركات أسطوانات أجنبية لتسجيل أغانيه على أسطوانات في بغداد، ناهيك عن سفره إلى القاهرة ودمشق وحلب والموصل وبيروت والقدس وحيفا والأحساء وأثينا وروما ومومباي ودلهي لإبراز الغناء الكويتي. وتحدث عن عبدالله فضالة كنموذج للفنان الكويتي الذي ساهم بإخراج الأغنية الكويتية من الشكل التقليدي المرتكز على المرواس والعود والتصفيق إلى شكل متطور من خلال استخدام آلات جديدة مثل البيانو واستعارة أنغام من الموسيقى المصرية واليمنية والحجازية والهندية.

يقول الكاتب وليد الرجيب، في صحيفة «الرأي» الكويتية (17/‏ 2/‏ 2008) ما مفاده، إنه مرت على الكويت ثلاثة عقود من النهضة الموسيقية في خمسينات وستينات وسبعينات القرن العشرين التي تطورت فيها الموسيقى والأغنية الكويتية بحيث وصلت إلى مستويات راقية قياساً بدول الجوار الخليجي، بل وعبرت الحدود وانتشرت في بقية الدول العربية.

ويعزو الكاتب الفضل في هذا الإنجاز في تلك الفترة إلى ثلّة من أبناء الكويت الذين درسوا الموسيقى والفنون في بلدان عربية، ولاسيما في مصر، فلما عادوا إلى الكويت طبقوا علمهم بإبداع وبما يتناسب مع الإيقاع والتراث الفني والموسيقي الكويتي. ولم ينسَ الكاتب الإشارة إلى أفضال وزارة الإعلام فترتذاك، التي شجعت المواهب وتبنتها بالرعاية من جهة، وقامت من جهة أخرى بتأسيس فرقة إذاعة الكويت الموسيقية التي تكونت من مجموعة من العازفين العرب بمشاركة عازفين من الكويت، والتي صاحبت معظم المطربين الكويتيين، بل وخرج من رحمها أعذب الأصوات وأشجى الألحان، ومنهم مطربون وملحنون بلغت شهرتهم الآفاق الخليجية والعربية كعبدالحميد السيد، الذي لحن للعندليب عبدالحليم حافظ، وحمد عيسى الرجيب الذي لحن لعبدالحليم ونجاح سلام ونجاة الصغيرة، وأحمد باقر الذي لحن للفنانة علية التونسية.

أما الدكتور خليفة الوقيان، فقد تطرق في كتابه «الثقافة في الكويت.. بواكير واتجاهات» إلى أفضال الأستاذ حمد عيسى الرجيب (1922 ــ 1998) الجليلة على الموسيقى والموسيقيين في الكويت والتي تجلت في تأسيسه «دائرة الشؤون الاجتماعية والعمل» قبل استقلال الكويت، ومن ثم شروعه بحكم منصبه في إنشاء «مركز رعاية الفنون الشعبية» في عام 1956، التي شكلت بدورها لجنة مكونة من أعلام الأدب والثقافة العاشقين للفن والتراث الشعبي في الكويت من أمثال عبدالعزيز حسين التركيت وأحمد بشر الرومي ومحمد جاسم المضف وسعود راشد وأحمد مشاري العدواني، بهدف تطوير كل ما له صلة بالغناء والموسيقى والفنون الشعبية.

ويضيف الوقيان قائلاً (بتصرف): لقد نهل من هذا المركز عدد من الفنانين الشباب الموهوبين مثل أحمد الزنجباري وعبدالعزيز المفرج الشهير بشادي الخليج وأحمد باقر وعبدالحميد السيد، فاستخلصوا ألحاناً جميلة متطورة مثل لحن أغنية «لي خليل حسين» لأحمد باقر وغناء شادي الخليج، ولحن «فرحة العودة» لحمد الرجيب من غناء شادي الخليج أيضاً، ولحن «ألا يا صبا نجد» لأحمد الزنجباري من غناء عوض الدوخي، بينما سجل الفنان سعود الراشد في القاهرة في عام 1958 مجموعة من الأغاني بمصاحبة فرقة موسيقية متكاملة، منها «سادتي» و«فز قلبي»، ثم جاء تأسيس المعهد العالي للفنون الموسيقية ليقدم مادة علمية أكاديمية للدارسين والدارسات من الكويت ومختلف دول الخليج العربي.

كانت تلك مقدمة للحديث عن شخصية عربية مصرية كان لها بعض الفضل في ريادة الكويت غناء ولحناً وطرباً إلى درجة يمكن القول معها، إن بصماته في هذا المجال لا تقل عن بصمات مواطنه المسرحي الكبير زكي طليمات (1894 ــ 1982) في ترسيخ قواعد المسرح الكويتي وتأهيل نجومه والارتقاء بهم حتى غدت الكويت رائدة مسرحياً في نطاقها الخليجي.

شاءت الأقدار أن تحل هذه الشخصية الموسيقية العبقرية في إمارة الكويت سنة 1958/‏ 1959، وهي على مشارف تحقيق استقلالها الناجز وبدء نهضتها المباركة. غير أن المؤسف حقاً أنه لم يكتب الكثير عن هذا الرجل الذي سنتاول سيرته في هذا المبحث، باعتباره أحد العرب الذين عاشوا في الخليج العربي لسنوات طويلة، وتركوا فيه بصماتهم الخالدة في مجال تخصصهم. نقول هذا لأن كل ما هو متوفر عنه لا يتجاوز إشارات عابرة في المؤلفات التي تتحدث عن تاريخ الغناء في الكويت.

إنه الموسيقار والملحن وعازف الكمان المبدع نجيب رزق الله، الذي وقع عليه الاختيار من قبل نائب حاكم الكويت الأسبق الشيخ عبدالله المبارك الصباح (1914 ــ 1991) ليؤسس ويقود ويطور فرقة للموسيقى بدار الإذاعة الكويتية في أواخر الخمسينات من القرن العشرين، في وقت كانت إذاعة الكويت في مرحلة التحديث والتقوية والتطوير، لجهة الأجهزة والكوادر والبرامج، بهدف إيصال صوت البلاد إلى دول الجوار والأقطار العربية، بل في زمن لم تكن فنون الكويت الموسيقية قد غزت بعد العالم العربي على النحو الذي حدث لاحقاً.

يقول رزق الله في حوار مسجل مع تلفزيون الكويت سنة 1964 إنه حينما حلّ في الكويت لم يجد في إذاعتها فرقة موسيقية متكاملة الأدوات والعازفين، فعمل على تأسيسها من تسعة عازفين ومطربين اختار عدداً منهم من موسيقيي الكويت، وأضاف إليهم عدداً من العازفين المهرة ممن جلبهم من مصر والعراق.

وهذا تؤكده قائمة منشورة حول أعضاء الفرقة وقت تأسيسها في كتاب «هنا الكويت» الذي نشرته مكتبة الكويت الوطنية سنة 2008 من تأليف يوسف عبدالوهاب السريع وفيها أن الفرقة تأسست آنذاك من: نجيب رزق الله (رئيساً للفرقة وعازفاً أساسياً للكمان)، وأحمد علي (عازف على الكمان والعود والبيانو والكونترباص)، ومصطفى جبريل (عازف على الكمان ومصلح للآلات الوترية)، وعبدالمنعم السيد (عازف على التشيلو)، وكل من مرسي الحريري، ومحمود مرسي، وفوزي جمال، ومحمد صادق كمطربين، وكل من ميشيل المصري ومحمود رضا غنيم كعازفين على الكمان. وفي عام 1960 انضم إلى هؤلاء كل من: طلعت خالد، ولطفي مرسي وفتحي ياسين، وصبحي أحمد، ومحمد عبدالعال، وعبدالرؤوف إسماعيل، وناطق طالب، وأحمد مختار وأحمد الرفاعي، وفؤاد ميلاد، وحمدي الحريري (حل لاحقاً كبديل لرزق الله في قيادة الفرقة) كعازفين على الكمان، وسعيد البنا (عازف على التشيلو)، علي الحفني (عازف على الناي)، حسن زايد (عازف على الناي)، هناء العشماوي (عازفة على آلة الكلارنيت)، نزيه جمعة (عازف على الكونترباص)، إبراهيم الصولة (عازف على الكونترباص)، حسن محمد حسن (عازف على آلة الفلوت)، مدحت محمد طه (عازف على آلتَي الرق والبونجز). كما انضمت إلى الفرقة عام 1961 مجموعة من المطربات اللواتي عملن ككورس وهن: رباب، سميرة، سلمى، طفة، سلوى، لبنى، حورية سامي، خالدة عبدالجليل، فاطمة محمود، فاطمة شوقي. هذا علاوة على عدد من المطربين ومنهم: شكري عياد، فتى الريف، محمد الساحر، (أخو الفنان حمدان الساحر)، مصطفى الجعفري، ومصطفى الجوهري.

الذين عملوا مع رزق الله أو عرفوه عن كثب أجمعوا على أنه كان إنساناً طيباً ودوداً متميزاً بأخلاق حميدة وإخلاص ودأب في عمله وأحاديث موزونة لا يمل منها المرء، ولهذا كان الكل يحبه ويحترمه ويتمنى صداقته ومجالسته.

واختتم رزق الله مسيرته اللحنية وتعاونه مع الدوخي برائعة «صوت السهارى (كلمات يوسف الدوخي) التي حطمت الأرقام في الانتشار سواء بصوت عوض الدوخي أو بصوت الفنانة فايزة أحمد، التي غنتها بطلب من الدوخي بدليل أنها بلغت اليوم أكثر من 60 عاماً من العمر ولا تزال في عنفوان شبابها بحسب تعبير الكاتب الكويتي فيصل خاجة في صحيفة «الجريدة الكويتية» (16/‏‏ 11/‏‏ 2021).

لكنّ هناك خلافاً على من لحّن «صوت السهارى»، هل هو يوسف الدوخي أم نجيب رزق الله؟ في اعتقادنا أن يوسف وعوض الدوخي ربما توليا تلحين المقطعين الثاني والرابع من الأغنية على مقام الحجاز، لكن من يستمع إلى العمل ككل بآذان فاحصة سيجده أقرب إلى الأغنية المصرية منها إلى الأغنية الكويتية، وهذا أوضح دليل على تأثر هذا العمل بالوهج الفني المصري، وبصمات الموسيقار نجيب رزق الله الذي تولى قيادة التلحين والتوزيع الموسيقي ومتابعة العمل نظماً ونغماً منذ البداية.

كان لرزق الله أيضاً فضل على المطربة المصرية حورية سامي، التي أتى بها صاحبنا إلى الكويت سنة 1961 للعمل ضمن كورال الإذاعة الكويتية، لكنها شقت طريقها بدعم منه إلى أن أجازتها إذاعة الكويت بشكل رسمي، فأبدعت بعد ذلك في الغناء باللهجة الكويتية بطريقة متميزة ولافتة، بل أدت معظم أغانيها المسجلة لدى الإذاعة والتلفزيون الكويتيَّين (54 أغنية)، باللباس الشعبي للكويتيات. وقبل الغزو العراقي للكويت سنة 1990 بأسابيع قليلة سافرت إلى مصر لزيارة أقاربها ولم تعد. وفي مصر انضمت لفرقة سمير صبري، لكن لم يعجبها الحال، فقررت الاعتزال والتفرغ لأسرتها. وفي عام 1997 وافتها المنية هناك.

وأخيراً فإن نجيب رزق الله، الذي له مقطوعات موسيقية كثيرة من أشهرها «حبايب» و«شجن» و«بهجة»، انتقل إلى جوار ربه بالقاهرة في 6 يونيو 1972، بعد معاناة من مرض عضال.


إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق