
كتب: عاطف الجولاني
من المستفيد من التأزيم والتصعيد مع الحركة الإسلامية، ومن يتحرّك لإذكاء الفتنة وإثارة الفوضى والاصطياد في الماء العكر؟
كثيرون هم النافخون في كير الفتنة والساعون لتأجيجها، ولكلٍ منهم أجندته وأهدافه، ولكن ثمة أهدافًا مشتركة تجمعهم وتتمثل في الخصومة للحركة الإسلامية والرغبة بتحجيمها وبإنهاء أي تفاهمات أو تعايش أو علاقات إيجابية بينها وبين الجانب الرسمي، وفي الخشية من تداعيات غير مرغوبة لتقدّم المسار الإصلاحي في الأردن.
فهناك أعداء خارجيون لا يضمرون للأردن خيرًا ويتربصون به الدوائر، يتآمرون على كيانه ووجوده ونظامه السياسي وهويته الوطنية والحضارية ودوره في الإقليم، ويسؤوهم استقراره وقوته ووحدة صفه، ويغيظهم وقوفه بكل مكوّناته إلى جانب الشعب الفلسطيني في مواجهة جرائم الحرب والإبادة الوحشية، ويسوؤهم ما تحظى بها المقاومة الفلسطينية من تأييد واسع في أوساط الشعب الأردني ونخبه الوطنية التي تعلن بوضوح أن مواجهة المقاومة لمخططات الاحتلال بتصفية القضية الفلسطينية وتنفيذ مخططات الضم والتهجير، يشكّل خط دفاع متقدم عن فلسطين والأردن والأمة.
وفي مقدمة الأعداء الخارجيين يمين صهيوني ديني متطرف ومتحفّز، لم يتوقف قادته منذ سيطرتهم على القرار السياسي، بل وحتى قبل ذلك، عن طرح رؤيتهم وأجندتهم المتطرّفة تجاه الأردن. وأقلّهم تطرّفًا من يرى في الأردن وطنًا بديلًا عن فلسطين، فيما يراه الأكثر تطرفّا جزءًا من أرض “إسرائيل” الموعودة تاريخيًا ووفقًا لوعد بلفور.
خلال الشهور الأخيرة تفاقم تحريض اليمين الصهيوني واندفع العديد من قادته لتوجيه رسائل تهديد وتحذير للأردن وتحدثوا عن ضرورة إعادة النظر إسرائيليًا في مدى المصلحة المتحققة من استقرار نظامه السياسي، وبدا واضحًا أن ضرب استقراره وتمزيق وحدته وتفتيت جبهته الداخلية وإضعاف عوامل قوته ومنعته، أمرُ يخدم أجنداتهم وتوجهاتهم لمستقبل الأردن.
وشجّع هؤلاء ما يتوقعونه من تأييد محتمل يمكن أن تقدّمه إدارة ترمب اليمينية لمثل هذه الرؤية والتوجهات المتطرّفة بعد تصريحات ترمب الخطيرة بخصوص تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة وممارسته ضغوطًا على الأردن لاستقبال أعداد كبيرة منهم.
وإلى جانب اليمين الصهيوني المتطرّف، ثمة خصوم لتيار الإسلام السياسي في المنطقة، لم يألوا جهدًا ولم يتوقفوا منذ أكثر من عشر سنوات عن تحريض الأردن على ضرب الحركة الإسلامية وتحجيمها وتصنيفها على قوائم الإرهاب كما فعلوا هم في وقت مبكر.
لكن الأردن بحكمته وتوازناته وحساباته الواقعية رفض الانسياق وراء عمليات الإغراء والإغواء والتحريض الإقليمي، وانحاز لرؤيته وقراءته الذاتية لمصالحه الوطنية، رغم ما تسبب به ذلك من تفويت لبعض المكتسبات الآنية ومن فتور في العلاقة مع تلك الأطراف الإقليمية.
أما على صعيد الداخل فهناك محرضون منتفعون يحرصون على إدامة الوضع السابق ويرون في تقدّم المسار الإصلاحي في الأردن تهديدًا لمصالحهم وأوضاعهم ومكتسباتهم.
وبعد الانتخابات النيابية الأخيرة التي حظيت فيها الحركة الإسلامية بتأييد شعبي واسع، انضم عديد المنافسين السياسيين الذي فشلوا في منافسة الحركة عبر صناديق الاقتراع إلى قائمة المتضررين والمحرضين على تعطيل المسار الإصلاحي والبطش بالحركة الإسلامية وإلغاء مخرجات العملية الانتخابية وحلّ البرلمان والانقلاب على منظومة تحديث التشريعات السياسية.
والسؤال الذي يفرض نفسه هذه الأيام: هل ثمة تغيّر جوهري يطرأ على قناعات الجانب الرسمي بخصوص إدارة الموقف من الحركة الإسلامية والعملية الديمقراطية والمسار الإصلاحي ودعم الشعب الفلسطيني في مواجهة الحصار وحرب الإبادة، أم أن إشكاليات طارئة يمكن التعامل معها والتفاهم بخصوصها هي التي تسببت بحالة التصعيد الأخيرة؟
لقد انحازت الحركة الإسلامية في مختلف المحطات التاريخية الصعبة لوطنها وأمتها، ولم يُسجّل عليها يومًا أنها وقفت في غير خندق الوطن أو سعت للإضرار بقوته ومنعته، بل كانت على الدوام في مقدمة صفوف المنافحين عنه في مواجهة كل المؤامرات التي استهدفته وحاكتها أطراف وأجندات خارجية، في وقت صمت فيه كثيرون وتموضع البعض في غير خندق الوطن.
وخلال السنوات الأخيرة توحّد الموقف الرسمي مع الموقف الشعبي، وفي المقدمة من ذلك الحركة الإسلامية، في العديد من الملفات، من بينها رفض صفقة القرن وتصفية القضية الفلسطينية على حساب الأردن، ورفض التهديدات الإسرائيلية بالتهجير والوطن البديل، والدفاع عن الأقصى والمطالبة باحترام الوصاية الهاشمية على المقدسات، وإدانة الإبادة الجماعية والترحيب بالجهد الرسمي في تقديم المساعدات الإنسانية لقطاع غزة.
لقد ساد منطق الحكمة والعقلانية وإيثار المصلحة الوطنية على سلوك الجانب الرسمي وعلى سلوك الحركة الإسلامية طيلة العقود السابقة، ونجح الطرفان في تقديم نموذج متفرّد في الساحة العربية لمدى القدرة على التعايش الإبجابي بين الجانب الرسمي والحركة الإسلامية والقوى السياسية، وعلى تحقيق الاستقرار في محيط ملتهب ومضطرب، وعلى توحّد المجتمع الأردني في مواجهة نزعات التطرّف والتشدد.
واليوم يبدو هذا النموذج الأردني الذي أسهم في تعزيز قوة الأردن ووحدته واستقراره، مصدر غضب وإزعاج لخصوم لا يرغبون باستمراره ويسعون لأن يلتحق الأردن بتوجهاتهم وتموضعاتهم السياسية. فهل يسمح الأردنيون بكل أطيافهم وتوجهاتهم ومواقعهم للشانئين والمحرضين بتحقيق مآربهم ونفث سمومهم؟
هو تحدٍ يواجه الأردنيين جميعًا، ويدعو لاستحضار أعلى درجات الحرص والمسؤولية الوطنية. فما تخبئه الأيام القادمة على مستوى الإقليم قد يكون بالغ الخطورة والصعوبة على الجميع، في ظل توجهات مجنونة لليمين الصهيوني واندفاعات غير محسوبة لإدارة ترمب التي تتخبط وتضرب في كل اتجاه.
المصلحة الوطنية تستدعي درجة عالية من الحكمة والعقلانية، وتتطلّب حوارًا هادئًا يُغلِّب فيه الجميع المصالح العليا على أي اعتبارات أخرى، ويتم فيه التوافق على أفضل السبل لمواجهة تحديات المرحلة وعبورها بأمان، وتُراعى فيه اعتبارات الموقف الرسمي وحساباته، وأشواق الشارع وتطلعاته للنهوض بأقلّ القليل من واجب الدعم والإسناد في ظل حالة من الشعور بالعجز وقلّة الحيلة أزاء ما يُرتكب من فظائع يتفطّر لها القلب وجرائم وحشية يندى له جبين الإنسانية.
ولا شك أن وقف التصعيد والتحشيد والتشويه وشيطنة الآخر وإقصائه، خطوة مهمة باتجاه التبريد وفتح المجال للحوار وتجاوز الأزمة. فجميعنا في مركب واحد، وكل على ثغرة من ثغر حماية الأردن والذود عنه وتجنيبه ما يُحاك له من مخططات ومؤامرات.
0 تعليق