في علوم السياسة هناك طريقان يمكن للدول أن تسلكهما: أولا، طريق الحلفاء، وثانيا، طريق الخصوم. لكن هذا الطرح الذي ساد طويلا في الجغرافيا السياسية العالمية لم يعد هو القاعدة الوحيدة التي تفضلها الدول! تحاول سلطنة عُمان أن تبني مسارا ثالثا يناسبها كثيرا، لكن هذا الطريق لا ينشأ دون حفر عميق، ودون خبرة سياسية، ودون سلطة الجغرافيا ودهاء التاريخ. تملك عُمان الكثير من الأبواب الجغرافية كما تملك الكثير من دهاء التاريخ الذي راكمته عبر قرون طويلة من الخبرة الحضارية والفهم العميق للتحولات الجيوسياسية في المنطقة وفي العالم، فهي ليست وليدة أمس ولكنها حاضرة بقوة قبل أن توجد الكثير من هذه الأمم التي تحاول اليوم فرض سيطرتها على ممرات الجغرافيا ومسالك السياسة.
وإذا كان العالم قد انتبه كثيرا خلال الأيام العشرة الماضية، كما لم يفعل من قبل خلال السنوات العشر الماضية، إلى القوة التي تملكها عُمان حينما استطاعت أولا، جمع الولايات المتحدة الأمريكية وإيران لبدء محادثات حول الملف النووي الإيراني، ما زالت ناجحة بعد جولتين وفق تأكيدات الطرفين، ووفق ما قاله السبت متحدث رسمي باسم وزارة الخارجية العمانية حسب ما نقلته وكالة الأنباء العمانية: «أسفرت جولة روما عن توافق الأطراف للانتقال إلى المرحلة التالية من المباحثات الهادفة إلى التوصل إلى اتفاق منصف ودائم وملزم يضمن خلوَّ إيران بالكامل من الأسلحة النووية ورفع العقوبات بالكامل عنها، مع الحفاظ على حقها في تطوير الطاقة النووية للأغراض السِّلمية».. وحينما فاجأت العالم ثانيا، بإنشاء أول ممر في العالم لنقل الهيدروجين الأخضر المسال من ميناء الدقم العماني إلى قلب أوروبا.. فإنها اليوم تفاجئ العالم بمستوى جديد ورفيع من العلاقات السياسية والاقتصادية مع روسيا متجاوزة ما يمكن أن نطلق عليه مصطلح «ما وراء الغرب». ورغم أن العلاقات الدبلوماسية بين عُمان وروسيا بدأت في عام 1985 إلا أنها بقيت في الغالب في سياقها الدبلوماسي رغم غرام العمانيين بالأدب الروسي وبالموسيقى والفنون الروسية ورغم انفتاحهم على السياحة في روسيا مؤخرا، إلا أن العلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية بقيت محدودة بالنظر إلى الإمكانيات الكبيرة التي تمتلكها روسيا وقبلها الاتحاد السوفييتي.
ولا يمكن أن نفهم إذن أن يقطع حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم، حفظه الله ورعاه، أكثر من ثلاثة آلاف ميل جوي لزيارة بروتوكولية للكرملين في أول زيارة رسمية لسلطان عماني لروسيا إلا إن كان الأمر له طابع استراتيجي وسياسة عمانية جديدة يمكن أن نقرأها وفق «مبدأ التنوع»، التنوع الاقتصادي والسياسي والثقافي حتى، وكلها باتت اليوم ضرورة استراتيجية في هذا العالم الذي يعيش مخاضات عسيرة في مرحلة «ما بعد النظام» إثر تداعي الكثير من روافع وأسس النظام العالمي الذي نشأ في أعقاب الحرب العالمية الثانية وترسخ إثر سقوط جدار برلين.
لكن عُمان اليوم ليست هي عُمان 1985 حينما بدأت العلاقات الدبلوماسية بينها وبين الاتحاد السوفييتي، وروسيا اليوم ليست هي روسيا ما قبل حرب القرم.. فالأولى تريد توسيع هوامش حركتها السياسية والاقتصادية وبناء ممرات جديدة للطاقة الجديدة والثانية تبحث عن نوافذ أغلقت بعد أن أغلق الغرب أبوابه.. بل إنها تبحث مع الصين «بناء نظام عالمي أكثر عدلا وأبعد عن الهيمنة الأمريكية» والغربية بشكل عام.
الواضح أن الزيارة تأتي في لحظة جيواستراتيجية شديدة الحساسية على كل المستويات، سواء تلك التي تهم روسيا نفسها أو التي تهم عُمان، ويمكن هنا أن نستحضر غزة التي كشفت عوار أخلاق الغرب، كذلك العقوبات التي تخنق الاقتصاد الروسي رغم أنه يفترض به أن يكون اقتصاد حرب، والصين التي بدأت للتو حربا اقتصادية حقيقية مع ترامب.. وأسعار النفط التي تتهاوى كل يوم على وقع التجريب الاقتصادي والسياسي الذي يتبعه ترامب.. وسط هذا المشهد المضطرب على عُمان أن تسير فوق حبل مشدود، وعليها، أيضا، وفق قيمها السياسية أن تسعى لبناء جسر بينها وبين الآخرين جميعا.
عندما بدأت روسيا التحول شرقا في أعقاب بدء الحرب بينها وبين أوكرانيا التي هي في الحقيقة أعمق من حرب بين دولتين إلى حرب بين حضارتين، الحضارة الأوراسية والحضارة الغربية بدأت تعرف عُمان بشكل عميق، وهي اللحظة التي بدأت فيها عمان أيضا العمل وفق سياسة ومبدأ «التنوع» وعرف الكرملين أهمية ميناء الدقم الذي يقع عند مفترق طرق الطاقة والنقل.. وإن شئنا الحياد السياسي، والأمر نفسه مع ميناء صلالة المفتوح منذ سنوات أمام السفن الصينية، وتطمح روسيا أن تكون ضمن خطوط «الممرات» الاقتصادية أو حتى السياسية التي يبنيها السلطان هيثم بن طارق.
إن حصول موسكو على تفاهمات لوجستية للوصول إلى مياه بحر العرب يجعلها توسع خياراتها بعيدا عن القيود الغربية، وتملك روسيا رؤوس أموال كبيرة وتقنيات متطورة في مجال الهيدروجين والطاقة الخضراء ما يجعلها شريكا مقبولا في الكثير من مشاريع عُمان الجديدة.
وعُمان تبني «التنوع» من أجل بناء الموازنة، وهذه الأخيرة تتقنها عُمان جيدا، فمن يستطيع بناء توازن طويل الأمد في علاقاته مع إيران ومع الغرب يستطيع أن يفعل ذلك في علاقاته مع روسيا ومع الغرب دون أن يكون محسوبا على أي منهما في سياق الحديث عن الاصطفاف.
والتكنولوجيا التي تملكها روسيا في مجال الهيدروجين الأزرق مهمة جدا وتستحق المحاولة في ظل بناء سلطنة عمان لأكبر مشاريع الهيدروجين في العالم.. وهذه اللحظة مهمة والنجاح الكبير يمكن في كيفية السير فيها.
لكن هل يمر التقارب مع روسيا دون تبعات؟
تعول عُمان كثيرا على فهم العالم لسياستها، فعلاقاتها مع مختلف الأقطاب لم تكن يوما اصطفافات سياسية وعسكرية، حدث ذلك مع إيران، ويحدث مع الصين، ويحدث منذ ثلاث سنوات مع روسيا نفسها عبر تمرينات عسكرية ثلاثية مشتركة طرفاها إضافة إلى عمان الصين وإيران أو إيران روسيا.
لكن لا بد هنا من الإشارة إلى نقطة مهمة جدا أن عُمان تستطيع أن تقدم لروسيا ما لا تستطيع شراءه، إنه الثقة؛ فالدبلوماسية العمانية قامت، وهكذا عرفها العالم خاصة في العقود الأخيرة، على التمسك بالمبادئ وأنها تملك قوة ناعمة مستمدة من إرثها التاريخي الراسخ وهذا أكبر رأسمالها. وحين يفكر بوتين في إعادة تجسير ما انقطع بينه وبين الغرب فلن يجد أفضل من مسقط تقوم بذلك على أكمل وجه بعيدا عن الضجيج وبعيدا عن لعبة المظاهر السطحية التي لا عمق لها ولا امتداد تاريخي أو سياسي.
ولا أستبعد شخصيا، بعد نجاح الجولتين: جولة مسقط وجولة روما من المباحثات بين إيران وأمريكا أن نكتشف لاحقا أن روسيا كان لها دور في الدفع بهذه المباحثات نحو النجاح خاصة بعد أن يكون الكرملين قد وثق علاقاته وفهم عن قرب جوهر السياسة التي تحاول مسقط بناءه في عالم تتهاوى تحالفاته.
لا يريد جلالة السلطان هيثم- أيده الله- وهو يدخل إلى الكرملين هدم أي نوع من أنواع الجدران سواء تلك التي بقيت من حقب مضت أو تلك التي تحاول الرسوم الجمركية الترامبية بناءها من جديد لكنه حريص جدا على أن يبقي في الجدران فتحات يمكن أن تكون في لحظة من اللحظات أبوابا واسعة للتفاوض وستكون عُمان عارفة جيدة بمساحاتها خاصة إذا ما أرادت إدارة تلك التفاوضات للدفع بالعالم بعيدا عن المواجهات والحروب.
بهذا المعنى يبدو الطريق الثالث الذي يحرص السلطان هيثم على بنائه بعيدا عن طريق الحلفاء أو الخصوم ملحا جدا في هذا الوقت، وأدواته بنائه ممكنة جدا.. والكرة في هذا التوقيت في ملعب موسكو.. وفي ميناء الدقم أيضا.
عاصم الشيدي كاتب ورئيس تحرير جريدة عمان
0 تعليق