loading ad...
خطة "كيسنجر المعكوسة" ضرب من الخيال
تسعى بعض دوائر السياسة الأميركية إلى تكرار نجاحات كيسنجر مع الصين عبر محاولة التقارب مع روسيا لموازنة صعود الصين. لكن هذه الفكرة غير قابلة للتحقيق في ظل الشراكة الاستراتيجية العميقة بين موسكو وبكين. لن يعود أي تقارب مع روسيا بمنافع حقيقية لأميركا بل سيتسبب في خسائر لمصالحها، بينما العلاقة بين بوتين وشي جينبينغ أقوى بكثير من أي اختلافات.اضافة اعلان
***
يحلم العديد من صناع السياسة الخارجية في الولايات المتحدة بأن يكونوا "هنري كيسنجر" التالي. سواء اعترفوا بذلك أم لا. وهم يرونه نموذجاً يحتذى به في القدرة على إجراء حسابات دقيقة للمصالح الوطنية، والتمتع ببصيرة جيوسياسية حادة، والالتزام العميق بالعمل الدبلوماسي. فقد كان رجل دولة أبرم صفقات كبرى تركت بصمات عميقة على الساحة الدولية. ولا توجد مناورة دبلوماسية تجسد أسلوب كيسنجر أكثر من الانفتاح الأميركي على الصين في العام 1972.
ومع احتدام المنافسة بين القوى العظمى من جديد، قد تغري صناع القرار الأميركيين اليوم محاولة تكرار ذلك النجاح عبر تنفيذ ما يمكن تسميته "عملية كيسنجر العكسية"، أي السعي إلى التقارب مع روسيا لموازنة صعود الصين، على عكس ما فعله هنري كيسنجر ابتداء من العام 1971 عندما كان يشغل منصب مستشار الأمن القومي للرئيس ريتشارد نيكسون. وفي ورقة بحثية مؤثرة نشرت العام 2021 من قبل "المجلس الأطلسي"، كتبها مسؤول حكومي سابق مجهول الهوية، اقترح الكاتب أن "تعيد واشنطن تحقيق التوازن في علاقتها مع روسيا،" لأن "من مصلحة الولايات المتحدة الاستراتيجية الدائمة أن تحول دون ازدياد عمق التحالف بين موسكو وبكين". وفي الأشهر القليلة الأولى، بدا أن إدارة ترامب قد تقبلت هذه الفكرة. فقد دعا وزير الخارجية ماركو روبيو، الولايات المتحدة، إلى "إقامة علاقة" مع روسيا بدلاً من تركها "تعتمد كلياً" على الصين. كما أن استخدام "نهج كيسنجر المعاكس" هو الذريعة المثالية لتودد الرئيس دونالد ترامب للرئيس الروسي فلاديمير بوتين. يكره الأميركيون بوتين، ولكن إذا أمكن تبرير احتضان ترامب للديكتاتور الروسي على أنه سلوك براغماتي أو واقعي سياسي أو على غرار نهج كيسنجر، فإنهم قد يقبلون هذا النهج.
من الناحية النظرية، يبدو إبعاد روسيا عن الصين لتغيير ميزان القوى لمصلحة الولايات المتحدة أمراً جذاباً. ولكن في الواقع، هذه الفكرة سيئة. والأهم من ذلك هو أن المقارنة مع الحرب الباردة في سبعينيات القرن الماضي مغلوطة. في تلك الحقبة، استغلت واشنطن الانقسام العميق القائم بالفعل بين موسكو وبكين لتحسين علاقاتها مع الصين، ولم تكن هي من أوجد هذا الانقسام. أما اليوم، فلا يوجد مثل هذا الانقسام، بل على العكس، أصبحت بكين وموسكو شريكتين استراتيجيتين حقيقيتين. ويرى كل من بوتين وزعيم الصين، شي جينبينغ، في الولايات المتحدة، التهديد الأكبر لبلاده، وقد أسسا علاقة مؤسسية قائمة على مصالح مادية متقاربة وقيم استبدادية مشتركة. ولا يملك بوتين أي سبب للتخلي عن الدعم الصيني الواسع والموثوق الذي تتلقاه روسيا في اقتصادها المدني وصناعتها الدفاعية، مقابل علاقة مع واشنطن قد لا تستمر لما بعد نهاية ولاية ترامب في العام 2028.
علاوة على ذلك، وفي حال حدوث الأمر غير المرجح والمتمثل في أن تنجح الولايات المتحدة في إبعاد روسيا عن الصين، فإن هذا التقارب الجديد مع الكرملين لن يعود بمنافع حقيقية تذكر على الشعب الأميركي، بل سيتسبب في خسائر كبيرة لمصالح أميركية أخرى. لن يساعد بوتين الولايات المتحدة في ردع الصين أو احتوائها، بل سيستغل حماسة واشنطن لتحسين العلاقات ليحرضها هي وبكين ضد بعضهما بعضا بينما يعيد بناء اقتصاد روسيا وجيشها. حتى أن مجرد السعي للتقارب مع موسكو سيكون ضاراً، لأن أي تودد تبديه الولايات المتحدة لروسيا سينفر أوروبا منها. عسكرياً، لا تملك روسيا ما يمكن أن تقدمه للولايات المتحدة أكثر مما يقدمه حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وهي كذلك شريك تجاري واستثماري أقل شأناً من الاتحاد الأوروبي. وسوف تعني محاولة كسب روسيا التخلي عن مجموعة من الحلفاء الأقوياء والأغنياء والموثوقين لمصلحة شريك ضعيف وفقير ومتقلب. وهذا تبادل لم يكن كيسنجر، وهو واقعي بامتياز، ليقبله أبداً.
التاريخ لا يتناغم دوماً
نشأت فكرة التقارب مع الصين مع نيكسون، وليس مع كيسنجر. وقد كتب نيكسون في مجلة "فورين أفيرز" العام 1967، قبل أن يصبح رئيساً، أن "أي سياسة أميركية تجاه آسيا يجب أن تتعامل على وجه السرعة مع واقع الصين"، وأن واشنطن "لا تستطيع ببساطة أن تترك الصين إلى الأبد خارج الأسرة الدولية، حيث تغذي أوهامها، وتعتز بكراهيتها، وتهدد جيرانها".
كان بإمكان نيكسون أن يطرح فكرة التصالح لأن ماو تسي تونغ، زعيم الصين، كان معنياً بالوصول إلى الهدف ذاته. وعلى الرغم من أن واشنطن ظلت تشك في أن كلاً من بكين وموسكو كانتا تنسقان مع بعضهما بعضاً سراً، إلا أن التحالف الصيني السوفياتي كان قد انتهى في الواقع منذ أواخر خمسينيات القرن العشرين في أعقاب نشوب خلافات حادة بين ماو والزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف. وبحلول أواخر الستينيات، كانت الصين والاتحاد السوفياتي في حالة حرب عملياً، حيث اشتدت ضراوة القتال على حدودهما الشمالية الشرقية حول جزيرة تشنباو، الواقعة على النهر الذي يفصل بين الدولتين، إلى درجة أن ماو قرر إجلاء القادة السياسيين من بكين في آب (أغسطس) 1969 [في خطوة احترازية لحمايتهم من أي تهديدات قد تنشأ نتيجة لتصاعد التوترات العسكرية]. وفي الوقت نفسه، كانت الصين تعاني داخلياً من تجاوزات "الثورة الثقافية"(1). وهكذا، عندما وصل كيسنجر للمرة الأولى إلى بكين في العام 1971، كانت الصين فقيرة ومعزولة وغير فعالة وتقاتل السوفيات. لم يكن كيسنجر في حاجة إلى إقناع نظرائه الصينيين بالنأي بأنفسهم عن موسكو. كان الشركاء السابقون قد انفصلوا عن بعضهم بعضاً سلفاً.
لا يمكن أن تكون العلاقات بين روسيا والصين اليوم أكثر اختلافاً عما كانت عليه في تلك لفترة. فليس هناك انقسام يمكن استغلاله. ومن المؤكد أن بكين كانت حذرة في استجابتها لغزو بوتين الشامل لأوكرانيا في العام 2022، حيث امتنعت عن التصويت بدلاً من أن تدلي بصوتها ضد قرارات الأمم المتحدة التي تدين الحرب، ولم تعترف على الإطلاق بضم موسكو للأراضي الأوكرانية، كما أنها رفضت حتى الآن إرسال أنظمة أسلحة كاملة إلى روسيا، وتحايلت بحذر على العقوبات الغربية. وقد خيبت هذه المواقف آمال الكرملين، غير أنها لم تحدث شرخاً كبيراً بين الدولتين. وفي نهاية المطاف، يبقى ما يوحد الزعيمين، بوتين وشي جينبينغ، أكثر بكثير مما يفرقهما.
لدى الزعيمين الروسي والصيني رؤية مشتركة للسياسة العالمية، تقوم على التزامهما المتبادل بالاستبداد وعدائهما المشترك تجاه الولايات المتحدة. وكلاهما يشعر بالتهديد من الدول الديمقراطية والأفكار الديمقراطية. وقد دأب بوتين وشي على انتقاد الولايات المتحدة لدعمها ما يعرف بـ"الثورات الملونة" في جوارهما، ولسعيها إلى احتواء النفوذ الروسي والصيني في أوروبا وآسيا على التوالي. ويعتقدان أن الولايات المتحدة تمثل التهديد الأكبر لاستقرار بلديهما الداخلي وأمنهما الخارجي. ومن وجهة نظرهما، تمتلك واشنطن قوة مفرطة في العالم، وأفرطت في الترويج للديمقراطية وحقوق الإنسان. وهما يسعيان إلى تقليص النفوذ الاقتصادي والعسكري والسياسي للولايات المتحدة، وإضعاف النظام الدولي الليبرالي الذي تقوده الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية، ويريان في بعضهما بعضاً شريكاً أساسياً في هذا الجهد. وقد لا يكون ترامب نفسه ملتزماً بالترويج للديمقراطية أو الحفاظ على النظام الدولي الليبرالي، لكن بوتين وشي يتوقعان أن رئيساً واحداً لن يمحو عقوداً من الاستراتيجية الأميركية والتقاليد الراسخة في السياسة الخارجية الأميركية.
لا يطمح بوتين وشي فقط إلى جعل العالم آمناً للأنظمة الاستبدادية، بل يسعيان أيضاً إلى تشكيل القواعد والأعراف والمؤسسات الدولية بحيث تصبح الأنظمة الاستبدادية والتنمية التي تقودها الدولة مشروعة بقدر شرعية الديمقراطية والرأسمالية، إن لم يكن أكثر. ومن أجل تعزيز رؤيتهما هذه، يعمل الزعيمان من خلال منظمات متعددة الأطراف تستبعد الولايات المتحدة، مثل تكتل "بريكس" الذي يضم 10 دول، و"منظمة شنغهاي للتعاون"، التي تعد روسيا والصين من أعضائها المؤسسين.
وتسهم العلاقة الشخصية الوثيقة بين بوتين وشي في تسهيل وتعزيز التعاون بين بلديهما. إذ يرى بوتين في شي أهم شريك له في العالم، بينما يكن شي، الذي كان والده يدير التحالف الصيني السوفياتي في عهد ماو، ميلاً خاصاً إلى روسيا. وقد التقى الزعيمان عشرات المرات. وهما يحبان بعضهما بعضاً، أو إذا لم يكونا كذلك، فهما بارعان جداً في التظاهر بذلك. في ظل زعماء آخرين، كان تاريخ الخيانة وانعدام الثقة بين روسيا والصين، الذي طبعته حروب السيطرة الروسية على أراض صينية، وتصادم مناطق النفوذ، والاختلافات الثقافية، والنزاعات الحدودية، قادراً على عرقلة العلاقات الثنائية، لكن الروابط الشخصية بين بوتين وشي تحيد هذه المصادر المحتملة للتوتر. وطالما ظل الزعيمان في السلطة، فلن يحدث انقسام بين بلديهما.
وقد مكن كل ذلك أيضاً من التوسع السريع في المصالح الاقتصادية والعسكرية بين روسيا والصين. فعلى مدى العقود القليلة الماضية، زاد التعاون بين البلدين في مبيعات الطاقة، وصفقات الاستثمار، ونقل الأسلحة، ومشاريع الصناعات الدفاعية، والتدريبات العسكرية المشتركة. وقد تعمق اعتماد روسيا على الصين بشكل كبير منذ الغزو الشامل لأوكرانيا في العام 2022. وفي العام 2023، بلغ حجم التجارة الثنائية بين البلدين أكثر من 240 مليار دولار، وهو أعلى مستوى على الإطلاق. وبعدما فقدت روسيا أسواقها الأوروبية للنفط والصادرات، أصبحت تعتمد على عائدات مبيعات الطاقة إلى الصين لتمويل حربها. كما تتلقى شركات الدفاع الروسية مكونات حيوية من الصين لبناء أسلحة جديدة. وسرعان ما زادت الصين صادراتها من السلع الاستهلاكية إلى روسيا لملء الفراغ الذي خلفته السلع الغربية. ووفقاً لشركة الأبحاث "روديوم غروب"، في قطاع السيارات وحده، ارتفعت الحصة السوقية للصين في روسيا من تسعة في المائة إلى 61 في المائة بين العامين 2021 و2023.
مسعى لا طائل منه
من خلال التهديد بضم أراض جديدة وفرض تعريفات جمركية، زاد ترامب من تعقيد مشهد المنافسة بين القوى الكبرى بسرعة مذهلة، من خلال استعداء أقرب حلفاء الولايات المتحدة، لا سيما في أوروبا وأميركا الشمالية. كما حاول ترامب استمالة بوتين عبر إسقاط عضوية أوكرانيا في الـ"ناتو" من الحسابات؛ والتصويت مع روسيا وكوريا الشمالية ودول مارقة أخرى على قرارات للأمم المتحدة تتعلق بالحرب في أوكرانيا؛ والإصرار على أن تتنازل أوكرانيا عن أراض لروسيا لإنهاء الحرب؛ والتلميح إلى رفع العقوبات عن الشركات الروسية حتى قبل التوصل إلى اتفاق سلام. إن تنفير الحلفاء بلا داعٍ يضعف قوة الولايات المتحدة ونفوذها في العالم، ويتعارض مباشرة مع مبادئ الواقعية السياسية على طريقة كيسنجر. كما أن حماسة ترامب لتقديم تنازلات واسعة لبوتين توحي بأنه يعتبر العلاقة بين الولايات المتحدة وروسيا أكثر أهمية من علاقاتها مع أوكرانيا أو بقية أوروبا.
وليس من المفاجئ أن بوتين يستغل فعلاً رغبة ترامب في إقامة الصداقة. ففي آذار (مارس)، وبعد أن قدم ترامب تنازلات متعددة لروسيا كحافز لبوتين على توقيع اتفاق وقف إطلاق النار، أراد الأخير المزيد، بما في ذلك مطالبة واشنطن بوقف نقل الأسلحة إلى أوكرانيا والكف عن تبادل المعلومات الاستخباراتية معها، وإزاحة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي من منصبه. وفي الاجتماعات الخاصة مع مسؤولي إدارة ترامب، قد يلمح بوتين وفريقه إلى استخدام التعاون مع الولايات المتحدة لتحقيق التوازن مع الصين. لكن ذلك كله سيكون مجرد لعبة. إذ يرى بوتين في شي شريكاً مستقراً أيديولوجياً وعسكرياً واقتصادياً، وهو لن يتخلى عن تلك العلاقة مقابل وعود غامضة بتحسين العلاقات مع الولايات المتحدة.
إن تصور بوتين للولايات المتحدة على أنها عدوه الأكبر يتبلور منذ عقود، ومن المستبعد أن يتغير الآن. وما يزال مساعدوه وداعموه يتبنون النظرة الأساسية ذاتها. وعلى الرغم من أن الزعيم الروسي قد يعتقد أن ترامب يريد إقامة علاقات أمتن معه، فإنه لن يفكر بالطريقة نفسها تجاه مؤسسة السياسة الخارجية الأميركية. فهو يدرك أن الرئيس الأميركي يتمتع بنفوذ كبير، غير أنه لا يسيطر سيطرة كاملة على صنع السياسة الخارجية الأميركية. وقد رأى كيف فشل ترامب في ولايته الأولى في تقديم فوائد ملموسة لموسكو، مثل رفع العقوبات عن روسيا أو وقف المساعدات العسكرية الأميركية لأوكرانيا. وبعد أن شن بوتين غزوه الشامل لأوكرانيا، أصبح الرأي العام الأميركي أكثر انعداماً للثقة تجاه الديكتاتور الروسي. وإذا حاول ترامب انتزاع بوتين من قبضة شي، فإن مقاومة داخلية قوية في الولايات المتحدة ستقيد خياراته.
علاوة على ذلك، يعلم بوتين أن ترامب سيبقى رئيساً لأربعة أعوام فقط، وقد يسيطر على الكونغرس لمدة عامين فحسب، بينما قد يحكم شي جينبينغ الصين لعقد أو أكثر. ومع وجود دعم أميركي ضعيف خارج إطار ترامب لانتقال استراتيجي موال لروسيا، يتوقع بوتين أن أي تقارب سينتهي بسرعة. وحتى ترامب نفسه لا يمكن الوثوق به. فهو بالتأكيد أكثر تقلباً من شي. فعلى سبيل المثال، لم تتجاوز المودة المعلنة من ترامب تجاه زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون في ولايته الأولى تبادل رسائل مليئة بالمشاعر الرقيقة وقمتين فاشلتين، ولم يثمر ذلك عن أي تحول مهم في العلاقات الأميركية الكورية الشمالية.
يعلم بوتين أن ترامب لا يستطيع أن يقدم له ما يقدمه له شي. ولا تستطيع واشنطن أن تسد الفجوات التي ستنشأ في روسيا إذا ما تخلت عن شراكتها الاستراتيجية مع الصين. فعلى سبيل المثال، لن تحل الولايات المتحدة محل العقود الصينية الخاصة بالطاقة الروسية، لأن البلاد مكتفية ذاتياً بالفعل. كما سيتردد صانعو السياسة الأميركيون وشركات الدفاع بشدة في إعادة بناء القدرات العسكرية والصناعية الدفاعية الروسية. وبالنظر إلى الخسائر التي تكبدها المستثمرون سابقاً في روسيا، وسوء سيادة القانون فيها اليوم، والخشية من فرض عقوبات جديدة إذا ما غزا بوتين أوكرانيا أو أي بلد آخر مرة أخرى، فإن البنوك والشركات الأميركية الخاصة ستتردد في العودة إلى الاستثمار في الاقتصاد الروسي.
إذا بدا أن ترامب يحرز بعض التقدم مع بوتين، فإن لدى شي ما يمكن أن يستخدمه لإبقاء روسيا ضمن معسكره. يمكن للصين أن توسع بسرعة تعاونها مع روسيا في مجال الوقود الأحفوري، كأن تنجز مشروع خط أنابيب "قوة سيبيريا 2" للغاز الطبيعي، الذي تأجل لأعوام. كما يمكن لبكين أن تزيد من مساعدتها لقاعدة الصناعة الدفاعية الروسية. وهناك كثير من السبل التي يمكن أن تعتمدها بكين لتعزيز تعاونها الدبلوماسي مع موسكو في الأمم المتحدة وفي المناطق الرئيسة ذات الاهتمام المشترك، مثل الشرق الأوسط وأميركا اللاتينية.
تحول مكلف
عندما حقق كيسنجر ونيكسون التقارب بين الصين والولايات المتحدة في أوائل سبعينيات القرن الماضي، وفر ذلك لواشنطن ورقة ضغط في مفاوضاتها مع السوفيات بشأن الحد من التسلح، والانفراج الأوسع، وغيرهما. ولاحقاً، بعد تطبيع العلاقات الأميركية الصينية (وغزو موسكو لأفغانستان في العام 1979)، أقامت الولايات المتحدة والصين منشأة مشتركة لمراقبة التجارب النووية والصاروخية السوفياتية، وبدآ التعاون في المجال الدفاعي. ومع انفتاح الاقتصاد الصيني على العالم في الثمانينيات، استفادت الشركات والمستهلكون الأميركيون من نمو القطاع الصناعي الصيني. أما اليوم، فلا توجد فوائد موازية لشراكة أميركية مع روسيا.
ليس لدى بوتين وروسيا الكثير ليقدماه من أجل خدمة المصالح الأمنية الأميركية، وما يملكانه لن يستخدماه. فالغرض من جذب موسكو إلى هذا الجانب سيكون إضعاف موقع بكين، بما في ذلك قدرتها على بسط نفوذها العسكري في جوارها الإقليمي. لكن القوات المسلحة الروسية، التي بالكاد صمدت في أوكرانيا، لا يتوقع منها أن تقدم الكثير في سبيل احتواء الصين. وحتى لو أعادت روسيا بناء قواتها العسكرية، فإن بوتين لن ينشرها أبداً ضد الصين، ولن يضع جنوداً روساً إضافيين أو صواريخ أو سفناً لردع العدوان الصيني في آسيا.
على الصعيد الدبلوماسي، يعرف بوتين أن إعادة الاصطفاف الكامل مع الولايات المتحدة أمر غير مطروح على الطاولة. لن يوافق شركاء واشنطن الغربيون أبداً على دعوة روسيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أو حلف شمال الأطلسي، (ناتو) -أو حتى العودة إلى مجموعة السبع. ولهذا السبب، لن تتخلى موسكو عن موقعها الحالي بالانسحاب من "بريكس" أو "منظمة شنغهاي للتعاون" أو أي منتديات أخرى تتمحور حول بكين. وقد يعتقد صانعو السياسات الذين يحلمون بشراكة أميركية روسية جديدة أن بوتين يمكن أن يساعد في عزل الصين في مجلس الأمن الدولي. غير أن هذا وحده لا يساوي الكثير بالنسبة للولايات المتحدة، بما أن بكين ما تزال تملك حق النقض (الفيتو) في ذلك المجلس.
كما أن موسكو لا تستطيع أن تقدم لواشنطن عرضاً اقتصادياً مغرياً أيضاً. فالولايات المتحدة مُصدر صاف للوقود الأحفوري، ولا تحتاج إلى واردات إضافية من الطاقة من روسيا. وقد يعرض بوتين على الشركات الأميركية كل أنواع الفرص الاستثمارية الجديدة، لكن هذه الشركات سبق وأن تضررت حين حاولت ممارسة الأعمال في روسيا. فقد وقعت شركة "إكسون موبيل" النفطية، على سبيل المثال، مشروعاً مشتركاً بمليارات الدولارات مع شركة "روسنفت" الروسية المملوكة للدولة، لكنه انتهى بعدما غزا بوتين أوكرانيا في العام 2022. وهناك الكثير من الأمثلة التحذيرية عن رجال أعمال أميركيين واجهوا صعوبات في حماية حقوق ملكيتهم، بل وحريتهم الشخصية أحياناً، وسط حالة الفوضى القانونية التي يتسم بها النظام الروسي. ولذلك، من غير المرجح أن يحقق أي انفراج دبلوماسي فوائد مادية كبيرة في المستقبل القريب.
وكما أظهرت المفاوضات الجارية بشأن وقف إطلاق النار في أوكرانيا، لا يبدي بوتين أي اهتمام بتقديم تنازلات مجانية، -حتى بعد حصوله على تنازلات كبيرة. ومن المؤكد أنه سيطالب واشنطن بالكثير إذا قرر الابتعاد عن بكين. ومن بين هذه المطالب، تسليم روسيا السيطرة الكاملة على أوكرانيا. وقد يكون سحب الجنود الأميركيين من أوروبا، وإضعاف، وربما حتى التخلي عن، حلف الـ"ناتو" مطلباً آخر. وبعد أن وقع معاهدة دفاع جديدة مع كوريا الشمالية في العام 2024، قد يطالب بوتين حتى بإجراء تغييرات على انتشار القوات الأميركية في كوريا الجنوبية، وهو أمر سبق أن بحثه ترامب خلال ولايته الأولى.
سيكون السعي إلى إقامة علاقات أوثق مع روسيا مكلفاً جداً لعلاقات الولايات المتحدة مع شركائها الأكثر موثوقية وقدرة. سوف يحدث احتضان موسكو بالكامل صدمة قوية لحلفاء الولايات المتحدة في أوروبا وآسيا، وسيقوض مصداقية هذه التحالفات في وقت يساور فيه كثيراً من الدول القلق بالفعل بشأن التزامات الولايات المتحدة. وقد يتوقف الحلفاء عن شراء الأسلحة الأميركية، وعن تبادل المعلومات الاستخبارية، ويقلصون تجارتهم واستثماراتهم مع الولايات المتحدة. بل ربما تنشئ الدول الأوروبية تحالفاً جديداً يستبعد واشنطن. وقد تقرر بعض الدول غير النووية، وبخاصة في آسيا، بناء ترساناتها النووية الخاصة إذا رأت في التقارب الأميركي الروسي مؤشراً على أن الولايات المتحدة لم تعد تضع أمن الدول الواقعة تحت مظلتها النووية ضمن أولوياتها.
في نهاية المطاف، ستكون محاولة إبعاد روسيا عن الصين خطوة غير حكيمة وخطأ في آن معاً. فهي غير حكيمة بالدرجة الأولى لأنها ستمنح بوتين قدراً مفرطاً من القوة. ستصبح موسكو اللاعب المحوري في المنافسة بين بكين وواشنطن، وستمتلك علاقات مع الطرفين وهامشاً للمناورة بما يخدم مصالحها. وستكون الولايات المتحدة، بذلك، قد ساعدت بوتين على حل واحدة من أبرز مشكلاته الجيوسياسية: اعتماده المفرط على الصين وضعف أوراقه التفاوضية أمامها. كما أن مصالحة موسكو خطأ أخلاقي أيضاً، إذ تعني إضفاء الشرعية على أفعال بوتين الشنيعة والعنيفة، سواء في أوكرانيا أو داخل بلاده، حيث شدد قبضته الاستبدادية باعتقال المتظاهرين والنشطاء وزعماء المعارضة، بمن فيهم أليكسي نافالني، أبرز معارض سياسي لبوتين، الذي أثار موته في أحد معسكرات الاعتقال الروسية العام الماضي شبهات بتورط الكرملين. وليس احتضان قائد من هذا النوع أمراً يستحق المكاسب المحدودة التي قد تتحقق من استخدامه لموازنة الصين. وكلما أدرك صانعو القرار في الولايات المتحدة أن هذه الاستراتيجية لن تنجح، كان ذلك أفضل لمصالح الولايات المتحدة ولنزاهة القيم الأميركية.
*مايكل ماكفول: أستاذ العلوم السياسية، وزميل رفيع في مؤسسة "هوفر"، ومدير معهد فريمان سبوغلي للدراسات الدولية بجامعة ستانفورد. شغل منصب سفير الولايات المتحدة لدى روسيا بين العامين 2012 و2014. وهو مؤلف كتاب "المستبدون ضد الديمقراطيين: الصين، روسيا، أميركا، والفوضى العالمية الجديدة" الذي سيصدر قريباً.
*إيفان س. ميديروس: أستاذ ورئيس كرسي عائلة بينر للدراسات الآسيوية في كلية الخدمة الخارجية بجامعة "جورج تاون"، ومستشار أول في مجموعة آسيا. شغل منصب مساعد خاص للرئيس ومدير أول للشؤون الآسيوية في مجلس الأمن القومي خلال إدارة أوباما. وهو مؤلف كتاب "المنافسون الباردون: العصر الجديد للتنافس الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والصين".
المقال مترجم عن مجلة "فورين أفيرز"، حيث نشر في 4 نيسان (أبريل) 2025.
هامش:
(1) الثورة الثقافية (1966-1976): كانت حركة سياسية تهدف إلى تعزيز أفكار ماو والحد من التأثيرات الفكرية والثقافية التي كان يراها ماو ضد النظام الشيوعي، لكنها تسببت في فوضى اجتماعية واقتصادية.
0 تعليق