وضحى في شارع الأعشى: قوة المرأة ضد رياح التشدّد

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

(1)

يتشكّل المفهوم الثقافي للأنوثة عبر تمثلات ثقافية واجتماعية تختلف باختلاف الزمان والمكان. فالأنوثة، ليست مجرد حالة طبيعية يُشيئ فيها جسد المرأة في صفات الرقة والنعومة والجمال، بل بناء ثقافي يُشَكَّل، تعزيزه، أحيانا قمعه، أو إعادة تفسيره داخل المجتمع. لذلك أخذت دراسات الإنتروبولوجيا إخضاع التصورات الأبوية حول هذا المفهوم بالنقد والتفكيك، ورفضها الكامل لمقولة الباحثة شيري أورتنر أن الإناث مخلوقات طبيعية والذكور مخلوقات ثقافية. يتحكم في إنتاج المفهوم الشروط والسياقات الاجتماعية، فتنطلق الدراسات إلى تتبع أدوار المرأة في المجتمعات من منطلقات كثيرة لمعرفة الأنماط الثقافية المختلفة فيها.

في هذا السياق أحاول تحليل شخصية "وضحى" في مسلسل شارع الأعشى التي جسدتها الفنانة إلهام علي باقتدار كبير. إن وضحى ليست مجرد نموذج مفتقد في دراما المسلسلات الخليجية كافة، ولا شخصية درامية يسهل تجاوزها، بل امرأة بدوية مكافحة فقدت الزوج كسند ومسؤول عن رعيته، لتجد نفسها مع أبنائها تتصارع بقلبها وحكمتها وسط مجتمع شديد القسوة.

جسدت وضحى الأميّة التي لا تقرأ ولا تكتب (كأمهاتنا وجداتنا)، نموذج المرأة المحاربة على جبهات كثيرة: قسوة التقاليد، تكوين الذات في بيئة جديدة والبحث عن العمل في السوق، ولم يتناف مع تعظيم دورها في رعاية أسرتها، تسلّط المتشددين، شدّة الأبناء ورغبتهم في الانعتاق كلٌّ حسب أفكاره الخاصة، وتحديات البقاء واقفة رغم انكسارات قلبها. لكنها، رغم الألم والخسارات تظل تَحمي أسرتها بشجاعة وحنكة في مواقف حاسمة في مجتمع يُقدس خطاب السلطة الذكورية تارة باسم العادات والتقاليد، وتارة أخرى باسم التشدد الديني، ليُشرعن القهر بسياط النصوص المغلوطة، فتقاوم وضحى لتخلق الفارق في النموذج الدرامي الغائب عن ساحتنا الإنتاجية في الخليج، مما يجعل شخصيتها قريبة إلى نماذج المرأة البطولية المقاومة في الأدب والمسرح.

المتابعون لمسلسل "شارع الأعشى" المقتبس عن رواية "غراميّات شارع الأعشى" للروائية السعودية بدرية البِشر، ومعالجة كاتبة السيناريو منال العويبيل التي "تمثّل دورها كمعالجة دراماتورجية لتطوير البنية الدرامية للمسلسل، بما يتطلبه من إعادة ترتيب المَشاهد، وتكثيف الحبكة، وتطوير لملامح الشخصيات وفق مقتضيات العرض الدرامي"، أجمع أغلبهم على تمتع شخصية وضحى بصفات هي: القوة، الصلابة، عزة النفس، الهدوء، الجرأة؛ ومصدرها ليس قلة أخلاق أو مخالفة لأنوثتها، بل أنوثة نابعة من الاعتداد بالذات والاستحقاق. قدرة توصيلها بنظراتها دون انفعال، حتى لحظات سكوتها وتفكيرها ولغة جسدها، كان له ثقله. نجحت وضحى في رسم حدود علاقتها مع جارها أبي إبراهيم وعائلته منذ بداية قدومها، والتأدب في أخذ حقها، والاعتذار الصادق في الاعتذار عن الظن أو الخطأ، إنها بإيجاز امرأة حكيمة، قدرت أن تتأقلم مع الظروف المحيطة بها، كوّنها امرأة جاءت من البادية لتؤثث حياتها في بيئة حضرية طُلب منها الامتثال لمعايير حياة الناس في شارع الأعشى واحترامها وامرأة لم تتخل عن أنوثتها (التي تعني هنا الجمال في مشهد رقصها في العرس)، ولا التنازل عن أمومتها، بل ظلت تقارع غلو التشدد وسياط الأعراف.

في سياق المشاهد التي ظهرت فيها وضحى كانت المشاهد والحوارات تدلل على وجود خطاب ثنائية المذكر والمؤنث وما بينهما من فروق بيولوجية، دون إغفال ثانية "العقل الذكوري مقابل العاطفة الأنثوية، حيث التدّبر، والقوة، والصرامة مقابل الاحتيال، والاستسلام، والليونة. ثمّة جنس انتزع دوره بالمراس الذي شحذ قوّته، وآخر توسّله بالنعومة والاستكانة، فجرى تنمّط عابر للتاريخ، فصل المرأة عن الرجل من ناحية القدرات، والكفاءات، والأفكار والمشاعر، ثمّ الوظائف والأدوار الاجتماعيّة". (د.عبدالله إبراهيم، السرد النسوي: الثقافة الأبوية، الهُوية الأنثوية، والجسد، 2011)، والمشهد الدال على بعض تلك المفاهيم جسده مشهد محاولة هروب ابنتها الصغيرة مزنة مع رياض للزواج، حيث يُنظر إلى الموقف من زاويتين:

الزاوية الأولى ترى أن الأم احتالت إذ حركتها عاطفتها نحو موقف إنقاذ الموقف لا نصرة لابنتها، بل مخافة من وصمة العار المجتمعيّة التي ستظل تلاحقها مدى الحياة. الزاوية الثانية تجزم على تمتع وضحى بدهاء وحكمة فائقة وشجاعة نادرة، وهي ميزات يستحوذ عليها الذكور في الخطاب الذكوري الثقافي. فإنّ تمتعت المرأة بها قالوا عنها خبيثة وماكرة ومحتالة، أما إن تمتع بها الرجل فهو العاقل الخبير!

في نطاق السلوك الحكيم الذي أشاد به المتابعون لا يجري النظر إلى قدرة وضحى التكيّف مع البيئة الحضرية وحده، بل يُحسب قدرة السيناريو على فتح باب استقبال التغيير القادم في النظام الاجتماعي والثقافي زمن السبعينيات في الجزيرة العربية، وهذا ما يؤكده علماء الأنثربولوجيا أن قضية تحرير الأنثى في مجتمعات محافظة، وتمكينها من تأدية أدوارها باعتبارها ذات كاملة (جسدا وعقلا وروحا ومكانة اجتماعية)، لا يكون إلا بتحرير المجتمع كله، بنسائه ورجاله من التصورات الثقافية الرمزية.

الناظر على سبيل الطرح إلى شخصية (نورة أم إبراهيم) الحضرية التي جسدتها الفنانة (عائشة كاي)، يَجدها على النقيض مع وضحى البدوية، حيث نراها شديدة، خائفة، مستسلمة، طائعة لزوجها بلا نقاش، على خلاف شخصية (أم جزاع) وجسدتها الفنانة (ريم الحبيب) كانت تاجرة تملكُ بيتا، حُرة مستقلة ومعتدة بذاتها. فهل التباين بين النساء يعود إلى التربية الثقافية وحده أم التمايز الاجتماعي بين الأنثى والذكر في ثقافة البادية؟

(2)

بالتأكيد يمكن إقامة مقارنات أخرى بين أنماط شخصيات شارع الأعشى النسائية في كفة، وشخصية وضحى في كفة عالية. لكنني سأنتقل إلى نماذج نسائية في المسرح الإغريقي على سبيل المثال، تواجه أنتيغونا رائعة سوفوكليس السلطة الذكورية الحاكمة، والتقاليد الظالمة بجرأة كبيرة، وتخاطر بحياتها من أجل الوفاء لواجبها الأخلاقي تجاه أخيها، هذا ما فعلته وضحى بإصرارها على الالتزام الأخلاقي لصديقتها أم جزاع بتوفير الأمان لابنها الهارب من العدالة إثر أحداث تفجير مكة، إذّ أصرت أن تحمي الشاب داخل مجتمع متشدد (ألفت الانتباه إلى رفضي لسلوك جزاع مبنى ومحتوى)، كما أصرت أنتيغونا الدّفاع عن الواجب، رغم أن سلطة الخطاب المجتمعي المتشدد ضدها.

كذلك نورا في مسرحية بيت الدمية رائعة هنريك إبسن، تمر برحلة نفسية حادة وصعبة عندما تُدرك أن عليها التحرر من زيف الحياة الزوجيّة والمجتمع الذي يُعامل المرأة ككائن قاصر، هي مثل وضحى، تختار نورا أن تتخذ موقفا حاسما لحماية كرامتها وحقها.

إن ما قدمه مسلسل "شارع الأعشى" يعدّ قفزة كبيرة جدا، ليس في الدراما السعودية فحسب، بل على صعيد الدراما في الخليج. حيث استطاع العمل بطاقمه النسائي تأليفا وتمثيلا ومعالجة، وأداء ممثليه الرجال، خلق النموذج الفني الاجتماعي القادر على استطاعة جعل المُشاهد التمييز بين ما كان من أعمال درامية في السنوات العشر الأخيرة، وما سيأتي بعده.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق