دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- قد تخال أنّ مهنة صناعة الساعات لا تنتمي إلى القرن الحادي والعشرين، لما تتطلّبه من صبر، ودقة، ووقت، فصانع الساعات قد يحتاج إلى أشهر أو حتى سنوات لصنع قطعة واحدة، في حين يعتمد معظم الناس على هواتفهم لمعرفة الوقت.
لكنّ هذه المهنة، التي يعتقد البعض أنها أصبحت من الماضي، تشهد عودة قوية، مدفوعة جزئيًا بحماس جيل "زد" لكل ما هو تناظري، ورغبتهم بالابتعاد عن الشاشات الرقمية.
حذّر القطاع لعقود من نقص في اليد العاملة مع وصول صنّاع الساعات إلى سن التقاعد، لكنّ الخبراء الذين تحدثوا إلى CNN أفادوا بوجود مستوى واعد من الاهتمام المهني.
وساهمت المجتمعات المهتمة بالساعات عبر الإنترنت بتشكيل جيل جديد من محبي صناعة الساعات، حيث يشارك المهتمون صغارًا وكبارًا مجموعاتهم الخاصة، ويسلّطون الضوء على الصنّاع المحترفين، ويعرضون الساعات المستعملة أو الكلاسيكية للبيع على منصات مثل "TikTok Shop".
وقد أدّى هذا السوق المزدهر لإعادة بيع الساعات إلى زيادة الطلب ليس فقط على صانعي الساعات، بل أيضًا على المصلحين المحترفين القادرين على إحياء كنوز الماضي، بحسب يوهان كونز-فرناندز، مدير برنامج "WOSTEP" (برنامج تدريب وتعليم صانعي الساعات في سويسرا) في مقابلة مع CNN.
وأضاف كونز-فرناندز أن الشباب قد يكونون "طوق النجاة" الذي يعيد الحيوية إلى صناعة الساعات، مشيرًا إلى أنه فُوجئ بعددهم الكبير في معرض "Watches and Wonders" السنوي في مدينة جنيف بسويسرا.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن، هو: كيف يمكن لهؤلاء الشباب تحويل شغفهم بالساعات إلى مهنة؟

مدرسة "Kelloseppäkoulu" لصناعة الساعات في إسبو بفنلندا تقوم بتدريب الطلبة على دخول هذا المجال منذ العام 1944. وتُعدّ إحدى أشهر مدارس صناعة الساعات في العالم، وتفخر بكونها تُخرّج "أكثر الأيدي ثباتًا في العالم"، بحسب المديرة هانا هاريلينن.
وقد شهدت المدرسة طلبًا متزايدًا لدرجة أنها قررت لأول مرة بتاريخها الممتد على مدار 80 عامًا تقديم دورة باللغة الإنجليزية، تبدأ في سبتمبر/ أيلول 2025.
وترى هاريلينن أنّ جزءًا من هذا الاهتمام المتزايد يعود إلى نمو شعبية علامات ساعات صغيرة (micro-brands) أسّسها صانعو ساعات مستقلون.
وأوضحت لـCNN أنّ "الشباب.. يريدون تصميم قطعة خاصة بهم، متينة، ولا تُستخدم لمرة واحدة ثم تُرمى".
وبرأي أوريلي سترايت، نائبة رئيس مؤسسة "Fondation Haute Horlogerie" السويسرية غير الربحية المعنية بالحفاظ على فن صناعة الساعات، تسعى الأجيال الجديدة إلى مهنة ذات معنى لهم ويطغى عليها الطابع العملي، وشرحت: "أنت ترى الأجزاء بوضوح، من السهل أن تفهم ما تفعله، وترى أثر عملك".
وأضافت أنّ المؤسسة تتلقى رسائل من شباب مهتمين لا يرغبون بقضاء يومهم أمام الشاشات.
من يريد أن يكون صانع ساعات؟
عندما قرر برنارد ليديرر أن يصبح صانع ساعات في سبعينيات القرن الماضي، لم يتمكن أحد من فهم سبب رغبته بذلك. ففي تلك الفترة، كانت أزمة "الكوارتز" الناتجة عن انتشار الساعات التي تعمل بالبطاريات، تضرب الاقتصاد السويسري بشدة، وكان من الصعب تصور عودة الساعات الميكانيكية إلى الواجهة.
ويتذكر في حديثه مع CNN: "كنت أُعامل وكأنني مخلوق فضائي، شخص غير تقليدي"، واصفًا هذه المهنة بأنها "أجمل مهنة يمكنني تخيلها".

لكن مع مرور السنوات، بدا أن ليديرر كان على حق في اختياره. فساعاته، التي قد يستغرق صنع الواحدة منها شهورا إلى سنوات عدّة، تُباع اليوم بأسعار تبدأ من 150 ألف دولار أمريكي.
ويرى ليديرر أن جائحة كورونا ساهمت بإحياء الاهتمام بصانعي الساعات المستقلين، حيث أُتيح لهواة جمع الساعات الوقت الكافي لاستكشاف المجال بعمق وشراء قطع "مُصمّمة وفق ذوقهم الشخصي"، بدلا من الاكتفاء بما يُعرف بـ"الترف الصناعي" المرتبط بالعلامات التجارية الكبرى، وفق ما قال لـCNN.
ومن بين المواهب الشابة التي تسير على خُطى ليديرر، يوهانس كالينيتش وتيبو كلايس، اللذان التقيا أثناء عملهما في شركة صناعة الساعات الفاخرة "A. Lange & Söhne"، قبل أن يُؤسسا شركتهما الخاصة "Kallinich Claeys" عام 2022.

يقيم الثنائي في مدينة غلاشوت الألمانية التي تشتهر بتقاليدها العريقة في صناعة الساعات منذ عام 1845، وقد وجدا فرصة لـ"ضخ روح جديدة في فن صناعة الساعات التقليدي"، بحسب ما ورد على موقع علامتهما.

اتخاذ نهج جديد في صناعة الساعات قد يكون عملية "مرهقة"، وفقًا لما قاله كلايس، البالغ من العمر 28 عامًا، والذي يصنع الأجزاء ويتولى اللمسات النهائية، بينما يتولى كالينيتش، البالغ من العمر 32 عامًا، تصميم وتجميع القطع. وقال كلايس لـCNN: "سيشتريها الأشخاص فقط إذا وجدوا أنها جميلة".
ويبدو أن المخاطرة بدأت تؤتي ثمارها. ففي معرض "Watches and Wonders" هذا العام، قال كالينيتش إن المراقبين لاحظوا تصميم الساعات المميّز بـ"الطابع الألماني" مع تقديرهم لإبداع العلامة التجارية.
النساء في المراتب العليا
تاريخياً، لطالما كانت النساء حاضرات في صناعة الساعات، واعتبرت أيديهنّ الأصغر حجمًا ميزة لمن يعملون على خطوط الإنتاج، أو عند مساعدة أزواجهن من صنّاع الساعات.
وأشارت سترايت إلى وجود "مساواة بين الجنسين" في الصناعة منذ الستينيات، حيث كانت النساء تشكل 50% من القوى العاملة في مصانع الساعات، رغم أنّهن كنّ في الغالب "عاملات"، فيما ظلت وظيفة "صانع الساعات" حكراً على الرجال.
اليوم، لا تزال النساء مُمثَّلات تمثيلاً ناقصاً في الصناعة، وفقًا لشونا تاين، وهي صانعة ساعات شابة تتحدى هذا الاتجاه.
وقالت تاين: "هناك عدد قليل من النساء المستقلات الشابات في هذا المجال".
وفي وقت سابق من هذا الشهر، أصبحت تاين، البالغة من العمر 27 عامًا، أول امرأة وأصغر شخص يتم قبوله في أكاديمية صانعي الساعات المستقلين (Académie Horlogère des Créateurs Indépendants) المرموقة.

ألهمت تجربة مع الساعة الفلكية الشهيرة في براغ خلال عطلة أثناء الطفولة صانعة الساعات فرنسية المولد، والمقيمة في سويسرا، في السعي لفهم كيفية عملها.
ومن ثم بدأت التدرب في سن الـ15، وأطلقت شركتها الخاصة في سن الـ22 بعدما أدركت أنه لن تمنحها أي شركة الحرية لتطوير الكثير من الساعات التي كانت في مخيلتها.

في العام الماضي، وصلت تاين إلى التصفية نصف النهائيّة في مسابقة "لوي فويتون" للساعات للمبدعين المستقلين، وهي الآن تعمل على 12 إصدارًا من أول ساعة تصنعها بشكل مستقل.
عندما تقارن تاين مهنة صناعة الساعات اليوم بالأجيال السابقة، تعترف أن المهنة لم تعد ضرورة كما كانت في الماضي.
ولكن ذلك يترافق مع حرية فنية أكبر.
وفي عالم اليوم، ترى أن الحرفة أصبحت "مجالاً فنيًا بحد ذاته"، مضيفة أن مكانة الساعات الاجتماعية، باعتبارها سلعًا فاخرة غير ضرورية، توفر لصانعي الساعات مثلها "المزيد من الحرية، والترف، والتعبير عن الذات".
0 تعليق