بناء السمعة المؤسسية

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

تابعت، كغيري من المتابعين، ما أثير مؤخرًا من تفاعلات وتعليقات حول بعض القرارات الإدارية التي أعلنتها بعض المؤسسات وكان لها تأثير مباشر في حياة الناس اليومية. ما استوقفني فـي كل ذلك لم يكن مضمون القرارات نفسها، فلكل جهة الحق فـي إدارة شؤونها وفق ما تراه مناسبًا، بل ما لفت انتباهي هو الأسلوب الذي طرحت به هذه القرارات، وتوقيتها، وكيفـية التواصل بشأنها مع الجمهور. بدا واضحًا أن جزءًا كبيرًا من ردود الفعل الغاضبة لم يكن ناتجًا عن جوهر القرار ، بقدر ما كان نتيجة لطريقة الإعلان عنه، وغياب التمهيد والتفسير، وكأن الناس طلب منهم فجأة أن يتفهموا، ويقبلوا وينفذوا ما نصت عليه تلك القرارات.

نحن اليوم فـي زمن لم يعد فـيه الجمهور ينتظر تفسيرًا من طرف واحد، ولا يقبل رسائل جاهزة لا تأخذ مشاعره وظروفه فـي الحسبان. كل قرار يمس مصالح الناس، مهما كان بسيطًا، يحتاج إلى تواصل مدروس، وإلى إدراك حقيقي بأن الثقة التي بنتها المؤسسة مع جمهورها عبر سنوات، يمكن أن تتبخر فـي لحظة واحدة من سوء الفهم أو ضعف التواصل.

الثقة المؤسسية - أو ما يُعرف فـي علم الاتصال بـ«السمعة المؤسسية» - لم تعد مفهومًا نظريًّا أو تجميليًّا فـي الهياكل الإدارية، بل أصبحت جزءا أصيلًا من هوية المؤسسة وكيانها. ولتقريب الصورة أكثر، أستشهد بما قالته الكاتبة وخبيرة السمعة الرقمية فاميلا كيوب «السمعة تُبنى على المدى الطويل، لكنها قد تُنسف بلحظة تواصل سيئة واحدة». عبارة تختصر كثيرًا من الحقيقة التي نغفل عنها أحيانًا حين نصدر بيانًا أو نمرر قرارًا دون أن نفكر فـي أثره النفسي والاجتماعي.

السمعة ليست مجرد كلمات لطيفة تقال فـي المؤتمرات الصحفـية، ولا تغريدات تزيَّن بعناية. إنها الانطباع الذي يبقى فـي ذهن الناس بعد كل تواصل، وهي الصورة التي تتشكل عن المؤسسة من خلال أفعالها، وقراراتها، وطريقة تعاطيها مع النقد والاختلاف.

وسائل الإعلام - التقليدية منها والرقمية - تلعب دورًا هائلًا فـي هذا التشكيل، إما فـي البناء أو الهدم. الإعلام يمكنه أن يُسلّط الضوء على الإنجازات، كما يمكنه أن يضخّم الأخطاء، ويجعل من زلة بسيطة أزمة وطنية. وخير شاهد على ذلك ما نراه اليوم فـي الولايات المتحدة، من معارك إعلامية حادة بين الرئيس دونالد ترامب ومؤسسات إعلامية كبرى، حيث أصبحت السمعة ساحة حرب مفتوحة بين الحقيقة والتأويل، بين التواصل والتشويه.

فـي هذا السياق، تصبح المسؤولية أكبر على فرق الإعلام والاتصال داخل المؤسسات. لم يعد كافـيًا أن يكون الموظف الذي يدير الاتصال جيدًا فـي اللغة أو يعرف أدوات التصميم أو النشر، بل يجب أن يكون لديه وعي استراتيجي، وحس إنساني، وإدراك عميق لكيفـية تأثير كل رسالة على الناس. وهنا تأتي أهمية التدريب المتواصل، والتطوير، والاستعانة بأصحاب الخبرة فـي الإعلام عند صياغة السياسات الاتصالية، خصوصًا حين تكون القرارات حساسة أو ذات تأثير اجتماعي واسع.

لقد أصبح من الضروري أن تفكر المؤسسات قبل أن تتكلم، وأن تزن كل عبارة قبل نشرها، لأن الجمهور اليوم لا يغفر بسهولة، ولا ينسى سريعًا. والمشهد الإعلامي الحديث لا يمنحك رفاهية فـي التبرير وإعادة الشرح بعد أن تكون قد خذلت فـي المرة الأولى. من هنا، فإن الاستثمار الحقيقي ليس فقط فـي تطوير الخدمات، بل فـي كيفـية تقديمها والتحدث عنها.

بناء السمعة المؤسسية ليس وظيفة العلاقات العامة وحدها، بل مسؤولية كل من يمثل المؤسسة ويتحدث باسمها. وهي لا تصنع فـي الحملات الإعلامية، بل تبنى بالصدق، والشفافـية، والاحترام. فالناس، فـي النهاية، لا يبحثون عن مؤسسة لا تخطئ، بل عن مؤسسة تعترف بخطئها، وتتواصل معهم بصدق حين تفعل ذلك فهذا هو جوهر التواصل والاتصال.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق