في معـنى التّـسلُّـط

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

هـلِ التّـسلُّـط فعْـلٌ سياسيّ واجتماعيّ مـلازِم للسّـلطة، على وجـه الضّرورة، بحيث لا يبرحها أو يرتفع عنها أم هو درجةٌ عليا فيها تتمظهر في الذّهاب بممارسة السّـلطـة إلى حـدودٍ تُحْـدِث فيها تلك الممارسةُ إيذاءً لمن هـو موضوعٌ لـفعل السّلطـة؟ بعبارة أخرى: هل ينتمي التّـسلّط إلى جملة الآليات التي تكـوِّن نظامَ اشتغال السّلطة والتي لا يمكن من دونها (الآليات) أن ينـتظم عملُـها كسلطة (على مثال آلياتٍ أخرى مثـل القـوّة، والقدرة على الضّـبط والسّيطرة وإنفـاذ القانون وسائر الآليات التي تتحقّـق بها السّلطـة بوصفها عـلاقـةً أمريّـة) أم هـو يمثّـل انزياحاً عن نظام السّـلطـة الأساس وإحداثاً فيه وإفاضةً يتضخّـم بها فعْـلُ السّلطة ويجاوِزُ حـدودَه المألوفة إلى حيث يصير فعلاً في غاية الإفراط والغُـلوّ في ممارسة السّلطـة؟ لِـنوجِز متسائلين: هـلِ التّـسلُّـط جوهريّ في السّـلطـة أم طارئٌ عارض؛ طبيعيّ أم مَـرَضـيّ؟

نـدخل إلى التّـفكير في السّـؤال الإشكاليّ أعـلاهُ من مدخلين ابتدائـيّـيْـن ضروريّـين: يتعلّـق الأوّل منهما بما بين طرفيْ الزّوج المفهـوميّ: سلطـة/تسلُّـط من اتّـصالٍ أو انفصـال أو، قـل، بمدى حاجة أيٍّ منهما إلى الثّاني؛ فيما يتعلّق ثاني ذينك المدخلين بخريطة التّـسلّط وجغـرافـيّـته أو المساحات المجتمعيّـة التي يتمظهر فيها.

يحتاج كـلُّ تسـلُّطٍ إلى سلطـةٍ، بالضّـرورة، قـد يمتـنع إمكانُـه من دونها. هـذه بديهـةٌ لا مكان للطّـعن فيها؛ إذْ لا يمارس فعْـلَ التّـسلّـط إلاّ صاحبُ سلطـة يُجْـري أحكامها على غـيره. ليس معنى ذلك أنّ التّـسلّـط خاصٌّ بالحكّـام وأنّ المحكومين بـراءٌ منه؛ فلـقـد يمارسه المحكوم - بـل هـو، قطـعاً، يمارسـه - على مَـن يَـقَـع تحت سلطـته من النّـاس، بالنّـظر إلى أنّ السّلطة نظـامٌ تراتبيّ وموزَّع على هيئات المجتمع كافّـة وليست رتبةً مركزيّـة مجسّـدة في مكـانٍ مّـا أو بؤرةٍ بعيـنـها؛ ثـمّ بالنّـظر إلى أنّ المحكوم نفسَـه يُـضْـمِر فيه صفـةَ حاكمٍ، بـل يفـرض سلطانَـه على مـن هـو واقـع تحت وَلاَيـته الاجتماعيّـة ونـفوذه المادّيّ. أمّا لماذا يعـتاز التّـسلُّطُ موقـعَ السّلطـة لكي يكـون إمكانُـه فلأنّ التّـسلّـط ليس، في المطاف الأخير، شيئاً غير الاشتطاطِ في ممارسة السّلطـة والغـلوِّ في ذلك ومجاوزةِ كـلّ حـدٍّ مقبـولٍ ومناسب. إنّـه عيـنُـه السّلطـةُ وقـد فاضت عـن حـدود شرعيّـتها.

لا يتوقّـف عمـلُ السّـلطة - في مقـابل ذلك - على عـامل التّسـلّط، بـل لا دور لهذا الأخير في نظام اشتغالها لأنّه ليس في جملة ما يكـوِّن بنيتَها من العناصر التّأسيسيّـة. إنّ المنطق الحاكم لأيّ سلطة هو تحقيق غايتها في الضّـبط والإلـزام بالانحكام العموميّ بالقـواعد العامّة على النّـحو الذي يتـأمّن به الاستقـرارُ وانتظامُ شؤون النّظام العامّ، ولكن من غير أن يُـخِـلّ ذلك التّحقيق بمشروعيّـة تلك السّلطة ومقبوليّـتها من قِـبَـل مَـن تديـر أمورهم. لذلك يَـستبـعـد هذا المنطق، مبدئـيّـاً، كـلَّ جنـوحٍ من السّلطـة للصّـيرورة تسلُّـطاً. على أنّـه قد يطرأ على سلطـةٍ مّـا عارضٌ سيّءٌ - منها أو من خارجها - يفضي بها إلى حيث تـتسـلّط نحواً من التّسلّط تبدي فيه القسوة والشّـدّة. ولا يكون ذلك، فـقـط، في الأحوال التي تَـعْـرِض فيها لتلك السّـلطة عوارض تهـزّ استـقرارها أو تنال من فاعليّـتها أو تهـدِّدُها والمجتمعَ بانـتقـاض الأحـوال العامّـة، بـل ربّما تَأتّـى ذلك الانـقلابُ فيها إلى تسـلُّـطٍ من انزياحٍ داخليّ في مضمونها يخرُج بها عن السّلطـة الشّرعيّـة وعن قواعـد العـقـل والمصلحة العامّـة: وهي القواعـد التي تحكُـم نظامَ فعلها وتستحصل لها القـدر الكافي الذي تحتاجـه من الرّضا والمقبوليّـة من المجتمع الذي تـقوم فيه.

نتـأدّى من هـذا السّياق إلى استـنتـاجٍ رئيـسٍ يفيـد بأنّ التّـسلُّط ليس، حُـكْـماً، من عُـدّةِ اشتغـال السّلطة ولا هـو من ماهيـتـها وإنْ ظـلّ يقـترن بها، باستمرار، بما هي ضروريّـةٌ له للتّـعبيـر عن نفسـه، بل إنّ التّسلّـط لحظةٌ من لحظات تَضـخُّمها وتورُّمها: اللّـحظة التي تـفيض فيها السّلطـةُ - أيُّ سلطة - عن حـدّها المعقول، أو المحكوم بالعـقـل، لتـجْنح نحـو شططٍ يَـقودُه الهـوى والمزاج والواعز الذّاتيّ. هكذا ميّـز أرسطو بين الأنظمة السّياسيّة، خاصّـةً بين نظامٍ مقبولٍ: أكان نظامَ فـردٍ (المَـلَـكـيّـة) أو نظـامَ قـلّـة (الأريستـقراطيّـة) أو نظامَ جمهور (الدّيمقراطيّـة)، ونظـامٍ نقيضٍ غيـرِ مقبول: فرديّ (طغـيانيّ)، وقِـلّـويّ (أوليغارشيّ) وجمهوريّ (شـعبويّ).

إنّ الرّائـز الذي يُـراز به النّـظامُ ونقيضُـه هو المبدأ الذي عليه مـدارُ كـلّ نظام: المصلحة العامّة (نموذج الأنظمة الثّلاثة الأولى) أو المصلحة الخاصّـة (نموذج الأنظمة الثّـلاثة الثّانيـة)؛ وهـو العقـلُ الذي يُـعيِّـن وجْـهَ المصلحة في أيّ نموذج سياسيّ ويَـعْـصِم نظاماً مّـا صالحاً ومشروعاً من الانـقلاب إلى نقيضـه. هكذا، أيضاً، أدرك عبد الرّحمن الكواكبيّ مواطِـن العوار في الاستبداد حين ردّه إلى انْـحكام نظامه بالهـوى والمزاج وبمبـدأ التّـفـرّد والتّـصرّف بمقـتضى المشيئـة والذّهـولِ، بالكـلـيّـة، عن العـقـل والمصالح العامّـة: الأسّ الأسـاس لكلّ سلطـة.

يقضي المدخـل الثّاني إلى فـكّ إبهام الصّـلة بين التّسلّـط والسّـلطة، وبيانِ معـناهُ الخاصّ، بوجوب النّـظر إليه في مفهومه الواسع، لا الضّـيّـق؛ والذي لا يعـدو هو نفـسُه أن يكون ترجمةً لاتّساع نطاق جغرافيّـة حضوره وفعلِه في ميادينَ من الوجود الاجتماعيّ مختلفة. سيسمح لنا مثـلُ هذا المدخل بأن نحـرِّر مفهوم التّـسلّـط من معناهُ الحصْريّ الدّارج بوصفه ظاهرةً سياسيّـة، من أجل أن ندرك أبعاده الاجتماعيّـة والإنسانيّـة الأخرى المحجوبة وتجلّـيّات حضوره خارج المجال السّياسيّ.

نعم، ما مـن شكٍّ في أنّ السّياسيَّ هو البُـعد الأَرْأسُ في ظاهرة التّـسلّط، وهو الأشـدُّ مفعـوليّـةً وأثراً في النّظام الاجتماعيّ، لكنّ ذلك ينبغي أن لا يحجُب عن وعينا إدراكَ علاقـةَ التّـسلّط في تمـظهراتٍ أخرى اجتماعيّـة لها، وفي بيئاتٍ أخرى غير البيئة السّياسيّـة.

إنّ علاقة التّسلّـط عابرةٌ لمياديـن الاجتماع كافّـة؛ نعـثـر عليها في الدّولة والنّـظام السّياسيّ وعلاقات الحكّـام بالمحكومين؛ مثـلما نعثر عليها متمظهرةً فاعلةً داخل سائر العلاقات والمؤسّسات: داخل الأسرة وفي علاقة الزّوج بالزّوجة والأب بالأبناء؛ وداخل المدرسة بين المكـوِّنين والتّـلامذة؛ داخـل الأحزاب والنِّـقابات والمنّـظمات المدنيّـة بين مراتبها: قياداتٍ وجمهوراً؛ ثـمّ داخل المؤسّـسات الإنتاجيّـة، الصّـناعيّـة والزّراعيّـة، والمؤسّسات الخِـدميّـة والإداريّـة وسواها؛ وأخيراً نعثر عليه حتّى داخل المؤسّسات العُـلمائـيّـة والفـقهـيّـة والإفـتائـيّـة حين يفرض فريـقٌ رأيـه على فريقٍ لاختلافِ المذهـب والمنبت...إلخ. هكـذا تُـظْـهِـرنا هـذه الجغرافيا الفسيحة لحضور التّـسلّـط في فضاءاتٍ عـدّة على مفـهومه بوصفـه علاقةً من الاشتطاط والغُـلوّ في ممارسة السّلطان عابرةً لحـدود ميادين الاجتماع الوطـنيّ والإنسانيّ.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق