تقدر قوة الأمم بقدر ما تملكه من حضارة، وتقاس الحضارات بقدر ما تنتجه الأمة من بحوث علمية قابلة للتطبيق، وتطوير حياة الإنسان، فتلك الإنجازات العلمية التي تحسن من مستوى معيشة الإنسان وتجعله يعيش برفاهية على هذه الأرض هي المقياس الحقيقي لقوة الأمة، وبالطبع فإن باقي الأمم ستقصدها لتنهل من تلك البحوث العلمية وتستفيد منها، ومن هنا تأتي أهمية لغة البحث العلمي، فاللغة التي تستخدم في البحوث العلمية هي اللغة التي تهتم باقي الأمم بتعلمها وإتقانها، وهنا نذكر قول الشاعر حافظ إبراهيم:
أرى لرجال الغرب عزاً ومنعة
وكم عز أقوام بعز لغات
إلا أن اللغة العربية لها خصوصية في منبع أهميتها، فأهميتها لا تكمن فقط كونها لغة استخدمت في البحث العلمي، بل إن أهميتها تكمن أنها لغة القرآن الكريم، فهي اللغة التي اختارها الله تعالى دوناً عن باقي لغات العالم لتكون وسيلة ليفهم البشر بها كلام الله تعالى، من هنا تأتي قداسة هذه اللغة، ومن هنا نفهم أن الله قد حفظ هذه اللغة كونها لغة القرآن الكريم لقوله تعالى: «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون».
نعم إن للغة العربية أهمية كبرى كونها اللغة التي كتبت بها عشرات الآلاف من البحوث العلمية في فترة عصر الحضارة الإسلامية، وأقصد بها الفترة تلك الفترة التي وثق علماء المسلمين إنجازاتهم العلمية في مجالات عدة كمجال الرياضيات، والطب والصيدلة، والهندسة، ولم تكن تلك البحوث بحوثاً نظرية بعيدة عن التطبيق بل كانت بحوثاً توثق كل إنجاز علمي تم تجريبه وتطبيقه وتوظيفه في الحياة، فتلك كتب ابن سينا في مجال الطب والتي وثقت تقنيات استئصال الأورام السرطانية، ووثقت طرق التخدير، ووثق منهجيات الوقاية من الأمراض المزمنة، وكذلك تجد مؤلفات المسلمين التي وثقت توظيفهم لعلوم الفيزياء والرياضيات في التطبيقات الهندسية أي في علوم الهندسة، حيث كان يرى العرب أن علوم الهندسة ما هي إلا تطبيقات مجتمعة لعدد من العلوم، فمن هذه المؤلفات كتاب ما يحتاج إليه الصانع في علم الهندسة لأبي الوفاء البوزوجاني، وقد كان يسمى المهندس بالعَريف وهذه الكلمة هي صيغة مبالغة لكلمة عرف فعلى المهندس أن يعرف الكثير من العلوم ليوظفها في التطبيقات الهندسية، أما الكتب التي توثق خبرات وعلوم المسلمين في مجال الملاحة فهي كثيرة وتتضمن توظيف العلوم المختلفة لعمليات الملاحة البحرية سواء علوم الرياضيات أو الفيزياء الطبيعية أو الفلك أو المناخ وأحوال الطقس.
تلك أمثلة لأبحاث المسلمين العلمية التي توثق واقع التطبيقات العلمية في عصر النهضة الإسلامية.
والواقع أن مؤلفات وأبحاث المسلمين والمكتوبة باللغة العربية في مجال العلوم لازالت موجودة في المكتبات في جميع أنحاء العالم، ولازال العلماء من جنسيات مختلفة يقصدونها ليأخذوا منها العلوم والبحوث، تلك العلوم والأبحاث التي طبقت في عصر الحضارة الإسلامية، إلا أنها طويت في صفحات النسيان وباتت نسياً منسياً، وندلل على ذلك بما نجده من تطبيقات علمية في قصر الحمراء في غرناطة، ففي هذا القصر نجد أنه تم توظيف تطبيقات علمية لتغير مسار الأنهار لتسير تلك الأنهار عكس اتجاه الجاذبية، كما نجد توظيف التطبيقات الفيزيائية لتشغيل مياه النافورة حسب مواعيد الصلوات الخمس طوال العام على اختلاف التوقيت طوال الفصول الأربعة، ففي وسط إحدى ساحات قصر الحمراء تجد نافورة يحيط بها خمسة تماثيل لأسود، يخرج من فم كل أسد الماء وقت أذان أحد مواقيت الصلاة يستخدم هذا الماء للوضوء، فالأسد الأول يخرج الماء لصلاة الصبح، والثاني لصلاة الظهر، وهكذا، معتمدين في ذلك على قواعد فيزيائية طبيعية، وعندما تم تخريب نظام تشغيل المياه بحسب مواعيد الصلاة لتلك النافورة، خلال فترة الحروب وأرادوا بعدها إعادة تصحيحها عجزوا عن إعادة تصميمها ولجؤوا لاستخدام الكهرباء.
فالقصد هنا أن هناك تطبيقات لبحوث علمية موثقة في كتب المسلمين يجهلها العرب والناس حتى يومنا هذا، وهنا تكمن أهمية الاستفادة من تلك العلوم والمكتوبة باللغة العربية، ومن هنا تكمن أهمية تعلم اللغة العربية كلغة العلوم وتطبيقاتها.
ولكن تكمن الإشكالية أن العرب أنفسهم يعزفون عن الاستفادة من الكتب العلمية المورثة من الحضارة الإسلامية، في حين يقبل عليها الأجانب ليأخذوا منها العلم ويعيدوا صياغتها بلغتهم، وبالتالي يتقبلها شباب العرب ويتعلمون منها بكل فخر وزهو.
وفي تقديري أن الإشكالية تكمن في مدى اعتزاز الشباب بتعلم اللغة العربية، واعتزازهم بتعلم لغات أخرى، فهم يعتبرون استخدامهم للغة العربية دليل على قلة كفاءتهم وعلمهم، فتلك إشكالية حضارية يجب التصدي لها، فعلى شبابنا تعلم اللغة العربية بما تتضمنه من مصطلحات علمية في مجالات العلوم المختلفة، ليتمكنوا من الاستفادة من الكتب العلمية الموروثة من الحضارة الإسلامية. وتطبيقها في حياتنا اليومية، وأن يوقنوا حق اليقين أن اللغة العربية هي الوسيلة لتعلم العلوم وتطبيقاتها..
ودمتم سالمين.
0 تعليق