لأن الدنيا قصيرة

الوطن البحرينية 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
بدر علي قمبر

مؤخراً، قمتُ بتسجيل بعض المقاطع المرئية ونشرها في حسابي على الإنستغرام، وكانت مقاطع مما يجول في الخاطر، ونابعة من القلب، في خضم أصداء أوقات الدنيا المُتسارعة. وأسميتها، بلا تخطيط، «لأن الدنيا قصيرة»؛ قصيرة بكل معانيها وأسبابها ومقاصدها، ولأننا فيها ضيوف، فما زلنا نُواصل السير، ونُحاول التقرب إلى المولى الكريم بكل الوسائل، وبكل الرسائل الحياتية، بصدق النوايا، وإحسان العمل، علّها تكون قربة للمولى الكريم، ورفعة في الدارين. والمرء، في كل الأحوال، يسأل الله القبول في العمل. حكى ابن جرير قول سعيد بن جبير في تفسير قوله تعالى: (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة)، أي: «يفعلون وهم يعلمون أنهم صائرون إلى الموت، وهي من المبشِّرات». لذا، نحتاج دائماً أن نُذكّر أنفسنا بأن الدنيا قصيرة وسريعة الانقضاء، وأن نُطهر أنفسنا مما يشوبها من الأدران، وفكرنا من الهموم التي تُنسينا مقاصد الحياة، وذكر الله تعالى، والتقرب إليه، وكل ذلك من وساوس الشيطان.

الكتابة عن رحيل الأحبة مؤلمة جداً في دنيا قصيرة؛ لأنهم كانوا في مساحات محببة إلى قلبك، وسرتَ معهم في ركب العطاء لفترات طويلة، وتعاملوا معك بإحسان المُحبين. ومهما كتبت، فلن تستطيع أن تصل إلى مبتغاك في الوفاء لهم، ولكنها سطور تُكتب لأثر الحياة، ليقرأها كل جيل، لأنك في يوم من الأيام سترحل كما رحلوا، وتتمنى لو يُكتب عنك، حتى يدعو لك الجميع بالخير، بدعوات صادقة تنفعك في آخرتك.

رحل عنا منذ أيام أستاذي الفاضل أحمد علي العطاوي (بوهمام)، أحد المدرسين الأفاضل الذين كان لهم عليَّ فضل، بعد فضل الله تعالى، في التدريس والتعليم، وغرس القيم في مراكز تحفيظ القرآن الكريم. ثم زاملته في العديد من الرحلات الخارجية، ومنها رحلات الحج، وكان فيها نعم المُربي، والمُعلم، والمُساند، والقدوة في كل ما يقوم به من عمل، وبخاصة في أيام الحج، حيث كان قامة مشهوداً لها بالخير بين الحجاج، بإخلاصه وتفانيه وعمله الدؤوب الذي لا يتوقف. كان حريصاً أشد الحرص على تلبية أي دعوة أدعوه من خلالها للعشاء أو غيره، مع ثُلّة من صحبة الذكريات، وكان يحرص على الحضور رغم ظروفه الصحية، وكان آخرها قبل وفاته بشهرين. كنا تشتاق للجلوس معه في كل مرة، لعفوية شخصيته، وتصالحه مع الجميع، وقلبه الطيب، وترحيبه الخاص، ونُبل أخلاقه، وقفشاته اللطيفة التي يُذكّرك فيها بالمواقف الجميلة المُضحكة التي مرت معك. لأبي همام الكثير من المواقف التي لا تُنسى، ويكفي أنه كان يتعنى بين فترة وأخرى لزيارتي في جامع الإيمان للصلاة والسلام، فكان يهتم بالجانب الاجتماعي، وكان بالفعل عنواناً للسلام. رحمه الله، وغفر له، وثبّته، وأبدله دارًا خيرًا من داره، وأهلًا خيرًا من أهله، وزوجًا خيرًا من زوجه، وألهم أهله ومُحبيه الصبر والسلوان، وجمعنا به ومن نحب في الفردوس الأعلى.

ولأن الدنيا قصيرة، فما زلنا نتحرر باستمرار من تلك الضغوطات الحياتية التي تُلازمنا بين الحين والآخر، والتي بطبيعتها لا تنفك عن حياة الإنسان، فقد خُلق ليُمحَّص ويُبتلى. فلا تكون الأيام متساوية، وهي ضغوط تجعلنا نُراجع العديد من أساليب الحياة، ونكون قادرين على المضي في رحاب مساحات جديدة، نُقدّم فيها الخير، أو نُقدّمه بأسلوب مختلف، حتى نستطيع أن نستفيد من جميع أوقاتنا في طاعة الله تعالى والتقرب إليه. التحرر من القيود الحياتية الوهمية، وأن تفقه كيف تتعامل بحكمة مع كل المواقف، يُعطيك بلا شك قوة وتحصيناً لمواجهة تحديات الحياة ومواقفها.

هناك من يهتم بنفسه، ويعمل بصمت، ونيّته إصلاح الحال، ورضا الديّان، والتغيير، والتأثير الإيجابي، وترك الأثر. وهناك من يهتم بتصيد الأخطاء، ويتتبع العورات، ويسيء الظنون، ويهمه تتبع أخبار الآخرين وتحركاتهم وأسلوب حياتهم. الصنف الأول هو الشخص المُنتج المُعطاء، الذي لا يتغير عطاؤه وإن تغيّر الآخرون، وتراه مؤثرًا في كل موقع، وفي كل ميدان تطأ فيه قدماه، ولا يفهم مقاصده إلا من فهم طيبة قلبه ومقاصد عمله. أما الصنف الثاني، فهو صنف مُتعب؛ عليك أن تحذر منه، وأن تضع لك حدوداً في التعامل معه، وأن تحذر من إيحاءات إيذائه، التي لا تظهر إلا بعد مرور الأيام. فهو يُهدر أوقاتك في القيل والقال، وهنا يكون التغافل هو الأمان النفسي للمرء عندما يتعامل مع من همّهم عيوب الآخرين. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يُبصر أحدكم القذى في عين أخيه، وينسى الجذع أو الجِذْل في عينه مُعترضا». (القذى: ما يقع في العين والماء من تُراب أو وسخ - الجذع أو الجذل: الخشبة الكبيرة). أي: يتحدث عن عيوب غيره وإن كانت صغيرة جداً، بينما لا يلتفت إلى العيب الظاهر في نفسه.

ومضة أمل:يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أبشروا وأمّلوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تُبسط الدنيا عليكم كما بُسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوا، فتهلككم كما أهلكتهم» متفق عليه.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق