ترجمة - أحمد شافعي -
من عادتي في مقالتي الأخيرة قبل «الكريسماس»، مثلما قد يعرف قرائي القدامى، أن أعثر على أسباب قليلة للتفاؤل. وكنت أخطط لكتابة هذا المقال على أي حال، لكنني ازددت عزيمة بسبب حوار مع قارئة اتصلت ببرنامج التبرعات الخيرية في صحيفة الجارديان في إجازة الأسبوع الماضي. اسمها تامي، وهي في الخامسة والسبعين، وقد قدمت تبرعها لكنها في الوقت نفسه طرحت سؤالا بسيطا، وإن يكن بعيد الغور: كيف نعيش في هذا العالم الرهيب؟
وشرعت تسرد بعض الأمور التي ساقتها إلى طرح ذلك السؤال على ذلك النحو الصارخ. تكلمت عن الدم المراق في أوكرانيا، والسودان، وغزة، وتنهدت وهي تشير إلى عودة دونالد ترامب الوشيكة، ثم جاء الأسبوع الحالي ببندين كان يمكن أن يضافا إلى قائمتها.
فقد عرفنا المزيد عن أعماق شرور نظام الأسد المخلوع مع اكتشاف مقبرة جماعية هائلة في مدينة القطيفة ذات خنادق طويلة وعميقة. يقال إنه في ما بين 2012 و2018 كانت أربع شاحنات ترد مرتين في الأسبوع، وكل منهما حاملة أكثر من مائة وخمسين جثة غير معرَّفة إلا بأرقام منقوشة على صدورها أو جباهها. ومعنى هذا أن رفات مئات آلاف السوريين الذين قتلهم حاكمهم موجودة في أرض القطيفة. وليس ذلك إلا محض موقع واحد. وثمة مواقع أخرى. وكل هذا يعقب مزيدا من التفاصيل التي ظهرت من غرف التعذيب والأبراج بسجن صيدنايا الذي استعملت فيه آلات تقطيع الخشب والمعدن في تقطيع اللحم والدم.
وعلى مقربة من الوطن، جاء هذا الأسبوع بالحكم على ثلاثة أشخاص تسببوا في وفاة سارة شريف ذات السنوات العشر، ومن الثلاثة والدها. وكانت تفاصيل تعذيبها مريعة كفيلة بأن تستولي على أي شخص يسمعها. وقد أشار القاضي الذي حكم على المدانين عن قسوة «توشك أن تفوق القدرة على التصور».
حينما تعلمون هذه الأمور، وحينما يتواصل وقوع مثل هذه الأحداث، يصعب ألا نتساءل مثلما تساءلت تامي: كيف نعيش في هذا العالم الرهيب؟ أو ألا نزيد سؤالها صعوبة: كيف بوسعنا أن نعيش ونبقى متفائلين تجاه المستقبل؟ إليكم إذن، تناغما مع روح هذه الأيام، بعض الاقتراحات المؤقتة.
من الخيارات أن نوقف التشغيل. ولا أعني الانقطاع عن العالم تماما، برغم أن ذلك قد يكون له وجاهته بين الحين والآخر، وإنما أعني التحكم في استهلاككم للكآبة. قد تتعين على الصحفيين المحترفين متابعة كل تطور وتحديث عاجل، ولكن ما من سبب يدعو الجميع إلى ذلك. ومع ذلك أرى كثيرا من الناس لا يتوقفون عن تصفح، أو مشاهدة قنوات الأخبار دائمة التغير. ثمة حجج وجيهة لتقليل استهلاككم لوسائل التواصل الاجتماعي، ومنها بالقطع إفراط التعرض للأخبار السيئة.
غير أنني أعترف أن هذا محض اجتناب لمشكلة بدلا من مواجهتها. فحتى لو أنكم قلّصتم جرعاتكم، وقصرتم الاطلاع لمرة واحدة في اليوم، ففي بعض الأوقات يمكن لنظرة واحدة على العناوين أن تملأكم باليأس. فكيف تتدبرون أمر ذلك؟
هناك أولا إدراككم أن العثور على النور في الظلام لا يحدث من تلقاء نفسه، وإنما عليكم أن تعملوا من أجله. ويمكن أن تعدوا ذلك من قبيل تفاؤل الإرادة أو التفاؤل العمدي. ويعني ذلك بذل جهد عمدي لمحاربة التشاؤم العقلي الذي من دأبه أن يكون المبادر بالسيطرة.
وتذكروا ردة الفعل على نتيجة الانتخابات في يوليو. كان ثمة تحرك فوري إلى تحليل المشكلات المتراكمة في فوز حزب العمال: فقد كان الفوز ساحقًا وخاليًا من الحب، لم ينطوِ على كثير من الحماس، وكان حجم التصويت ضئيلا، والدعم كان واسعًا لكنه ضحل. ناهيكم بالمهمة الهائلة التي كانت بانتظار الحكومة الجديدة. وكل ذلك كان، ولا يزال، صحيحا.
غير أن ذلك تم تجاوزه سريعا بسبب ما حدث أيضا، وهو أن البريطانيين تخلصوا من حزب محافظ متعفن عديم النفع، وولّوا حزب العمال بأغلبية ساحقة وهو الحزب الذي كثيرا ما رفضته الانتخابات. كان ذلك خبرا عظيما، ولكنه استوجب قرارًا واعيًا نشيطًا لاستطابته. لقد كانت أنظارنا منصبة على الغيوم قبل أن نلمح الجانب المشرق. وبالطبع كلنا نرى عيوب الحكومة الجديدة -ومنها افتقارها إلى التفاؤل- ولكننا نحسن صنعا حينما نوفر وهلة من الزمن نتذكر فيها ما الذي حلت محله هذه الحكومة، وكيف كان يمكن أن يكون شكل البديل.
أو، خذوا مثالًا مختلفًا اختلافًا كبيرًا، إذ كان الدافع عظيما حينما سمعنا بسقوط بشار الأسد إلى القلق فورا مما يمكن أن يعقبه، وبخاصة احتمال أن يعمد فرع القاعدة إلى تحويل سوريا إلى دولة دينية إسلامية قمعية. غير أن من شأن التفاؤل الإرادي أن يقودكم أولًا إلى أن تفرحوا بصور السوريين وهم يحررون أخيرا أحباءهم من غرف تعذيب الأسد، ثم ترجوا بعد ذلك أن تخرج سوريا على ماضيها وعلى النموذج المتبع من أغلب جيرانها وتقيم مجتمعا مستقرا حرا نسبيا. وليس علينا أن نتظاهر بأن هذا هو المرجح، ولكن بوسعنا ولو لوهلة على الأقل أن نتيح مجالا للاحتمال ونرجو الخير.
وفي سياق الجهود الرامية إلى التفاؤل، يمكننا أن نستمد القوة ممن يتجاسرون على السباحة ضد التيار وإن كان التيار شديد الوعورة. وأفكر في هذا الصدد مثلًا في فريق تحرير صحيفة ها آرتس الإسرائيلية فهؤلاء يحثون مواطنيهم باستمرار، وفي مواجهة معارضة شديدة، منها مقاطعة الحكومة اليمينية المتطرفة في البلد، على مواجهة حقيقة ما يفعله قادتهم وجيشهم في غزة. ومثل هذا العمل لا يكاد يرضي أحدا. ومع ذلك، لو كان مقدرا للإسرائيليين والفلسطينيين أن يجدوا يوما وسيلة للخروج من الظلام الحالي، فهذه الشجاعة هي التي ستكون مطلوبة. ووجود هذه الشجاعة بالفعل، هنا والآن، داع للأمل.
أفكر أيضا في ميروب ميلز، صديقتي وزميلتي في صحيفة الجارديان، فقد احتملت أعظم خسارة يمكن أن يواجهها إنسان -وهي وفاة الابن أو الابنة- وحولت ذلك الألم بطريقة ما إلى هدية لإنقاذ حياة الآخرين. إذ أن حملتها الرائعة المستمرة من أجل تطبيق قانون مارثا، الذي يمنح الأسر حق المطالبة بمراجعة عاجلة لعلاج أحد أحبائها في المستشفى، كان لها «تأثير تحويلي»، وفقًا للمدير الوطني الطبي لهيئة الخدمات الصحية الوطنية في إنجلترا.
وفي بعض الأحيان يكون من المفيد أن نحتفي بما هو جيد. ففي نهاية الأسبوع الماضي، وفي ما أصبح تقليدًا موسميًا آخر، اجتمعت مع أصدقاء لمشاهدة نهائي برنامج (ستريكتلي كم دانسينج). وصدقوني، لم يكن عليكم أن تكونوا من محبي رقص السامبا لتندهشوا مما حدث. فكريس ماكوسلاند، وهو ممثل كوميدي أعمى، فاجأ حتى نفسه بتعلم وإتقان سلسلة من الخطوات المعقدة على نحو متزايد. فكان أمرا ملهما بالطبع، ولكن ما كان مشجعا أيضا هو أن نعرف -قبل عدة أسابيع- بأن الناخبين سوف يجعلونه الفائز.
لا أعرف إن كان شيء من ذلك يجيب سؤال تامي: كيف نعيش في هذا العالم الرهيب؟ ربما بقبولنا حقيقة أن هذا هو العالم الوحيد الذي نملكه وأنه ليس دائما بهذا القدر من الرعب - بل إنه في بعض الأحيان، بل وفي كثير من الأحيان، قد يكون جميلًا إلى حد ما.
_________________
جوناثان فريدلاند من كتاب الرأي في صحيفة الجارديان
عن الجارديان البريطانية
0 تعليق