لا أتحدث هنا عن عداء تاريخي، بمعناه التجريدي، بين الحكومات وجماهيرها العامة، وإنما يدور الحديث حول شيء من التباين الذي تؤصله مجموعة من الصور النمطية التي يمارسها أعضاء الحكومات، والتي يكون لها - غالبًا - ردات فعل غير مستحسنة من قبل الجماهير، مع أن موظفي الحكومات هم هذه الجماهير. وإلا فما الذي يدفع هذه الجماهير لأن ترفع مكبرات الصوت في محافل نقاط الخلاف والتباين بين الطرفين؟
ونتيجة لهذا التباين والاختلاف، والتناقض في الوقت نفسه، تتضخم الصورة النمطية لهذه العلاقة، ولا يجد المتابع عاملا يمكن أن يقلل من هذا الاختلاف المستمر كل هذه المدة، منذ أن ظهر على خط العلاقات القائمة بين الأفراد «علاقة الحكومات بجماهيرها»، واستمرارها على ذات السياقات المعروفة: (ضد/مع) (مع/ضد). يحدث هذا أو يستمر، ليس فقط لأنه لا توجد نقطة للالتقاء، بل هناك نقاط كثيرة للالتقاء والتعاون والتكامل، وخاصة في السياقات الاجتماعية، ولكن لا توجد نقطة للاتفاق المطلق. وهذا عائد إلى أن عمل الإنسان، مهما بُذل فيه من جهد، سيظل يعتريه النقص.
ولذلك تحاول الحكومات أن تُجسّر هذه العلاقة التباينية بين الطرفين، من خلال استحداث أنظمة ومؤسسات وبرامج من شأنها - وفق المنظور الحكومي - أن تقلص الفوارق البينية في فكر المتلقي لخدماتها، بين ما تعمل من خلاله الحكومات، وبين ما تطمح إليه جماهيرها. والبينية هنا هي مستوى الوعي لدى طرفي المعادلة (الحكومات/الجماهير)، وهو الذي يستوعب الجهد الذي تبذله مؤسسات الحكومات، مضافًا إليه مستوى الإتقان الذي يجب أن يتحلى به موظفو الحكومات من ناحية، ومستوى الوعي الذي يُثمّن هذا الجهد في كثير من تفاصيله الدقيقة من قبل الجماهير من ناحية ثانية. فالمسألة البينية هنا مسؤولية الطرفين، ولا يتحملها طرف دون آخر.
والذين يميلون إلى ترجيح كفة الحكومات في كثير من مشروعات القرارات التي تتخذها، عليهم أيضًا أن يأخذوا بعين الاعتبار ضرورة مراعاة «ارتفاع سقف توقعات الأفراد» مما سوف تقدمه لهم حكوماتهم، مع عدالة توزيع برامج التنمية.
ومن المؤسسات التي ترى فيها الحكومات أن لها القدرة على تجسير العلاقة بين طرفي المعادلة: المجالس التشريعية المنتخبة، والتي أعطيت الجماهير مسؤولية انتخابها، حتى تتحمل مسؤوليتها عندما تُخفق هذه المجالس في القيام بدورها الكامل الذي تأمله الجماهير. وكذلك مؤسسات المجتمع المدني الرديفة ذات التخصصات المهنية المختلفة. وأعني بالرديفة هنا أنها تأتي وفق المسار الانتخابي النزيه - كما يُفترض - الذي تسير عليه المجالس التشريعية المنتخبة.
ولكن من الملاحظ أن كلتا المؤسستين سقطتا في نفس مأزق التباين، نتيجة لسعي كثير من أعضائهما - كل في مجال اختصاصه، أو البعض منهم - للعمل على توسيع قاعدته الخاصة في خانة المصلحة الشخصية. مع أن الشعارات المرفوعة في بداية التأسيس تكون دائمًا هي «المصلحة العامة»، وفي مقدمتها مصلحة الجمهور العريض. كحال الباحث عن العمل في بدايات الأمر، ومتى حصل على الوظيفة، بدأ يوسع ذات الموضع ليكون له موطئ قدم أكبر، متناسيًا مجموعة الظروف التي مر بها وهو يبحث عن هذه الوظيفة التي يُسخّرها الآن - وهو على كرسيها - لتضخيم ذاته، بغض النظر إن كان ذلك يضر بمصلحة جمهوره المحيط به، والذي ينتظر إنجاز مجموعة الخدمات في أقصر مدة وباحترافية متقنة.
إذن، الآن أصبح يُسيّر هذه العلاقة أربعة أطراف متنافسة - إن صح القول - هي: الحكومات، الجمهور، المجالس المنتخبة، مؤسسات المجتمع المدني. ولن نأتي هنا بالمؤسسة القضائية، لأنها تقف عند النتائج المستخلصة من جهد هذه المؤسسات، والتي سوف تُعرض على منصتها، وخاصة مجموعة التداعيات من هذه المنافسة بين هذه الأطراف الأربعة. ولأنها «تداعيات» - حسب الفهم - فهي إذن سلبية، وليست بنائية حتى يُبنى عليها، ويتعزز من خلالها الدور القائم في صالح هذه العلاقة.
والسؤال هنا: ما الذي يؤجج هذه العلاقة بين الطرفين، على طول خط التماس، مع مرور كل هذه المدة، وتضخم التجربة وتنوعها، منذ لحظة ميلاد الحكومات كمفهوم وممارسة؟
الجواب هو: نمو سقف التوقعات الإيجابية الملازم لأفراد هذا الجمهور الواسع، وخيبة أمله فيما بعد، انعكاسًا لمجموع الممارسات التي يبديها بعض منتسبي الحكومات. ولذلك، يستغل من يسعى إلى الانضمام إلى المجالس الانتخابية هذا الجانب، من خلال تقديم البرامج التي سيدّعي العمل عليها إن حظي بثقة هذا الجمهور، فيغازله بهذه البرامج الطموحة التي يرسمها على قائمته الانتخابية.
مع أن الجمهور ذكي جدًا، ويدرك أن هذه القائمة ليس باستطاعة أعضاء المجلس المنتخب تحقيقها، إلا من خلال ما يجد من فرص تتيحها له الحكومة، وهي فرص شحيحة جدًا، وقد تكون معدومة. وعندما يصطدم بعض الأعضاء بجمهورهم، لا يتوانون أن يقولوا: «ليس باستطاعتي عمل كل شيء»، حيث يعودون إلى مربعهم الأول. فيؤدي ذلك إلى اتساع فجوة العلاقة أكثر وأكثر بين الحكومات وجماهيرها، فترى الجماهير أن أعضاء المجالس المنتخبة ما هم إلا جزء من سياسة عامة تعمل من خلالها الحكومات، وبالتالي يزيد ذلك من اتساع شقة التباينات بين الطرفين - وهنا: الجماهير والمجالس المنتخبة والمؤسسات الرديفة - فينعكس ذلك على الصورة العامة في العلاقة بين الحكومات وجماهيرها.
الفكرة هنا ليست فقط في شقة الخلاف واتساعها بين هذه الأطراف المتباينة في أدائها، وخططها، ونوعية جماهيرها، ولكنني أسعى لإسقاطها في السياق الاجتماعي، وهو سياق يشكل أهمية كبيرة في هذه العلاقة، دون استثناء. فالسياق الاجتماعي، في مفهومه البسيط، يجسّر العلاقات بين مختلف الأطراف، خاصة في البيئة الواحدة. ولذلك تنجح كثير من البرامج التي تضعها الحكومات عندما تكون هذه الأطراف مجتمعة في بيئة واحدة.
وهذا ينقلنا إلى فهم آخر: أن البرامج التي تنجح في بيئة معينة، ليس شرطًا أن تنجح في بيئات أخرى، وإن تقاربت جزئيًا في اجتماعيتها وثقافتها. فهناك فواصل بينية لا يمكن أن تجتمع بين بيئات مختلفة. على سبيل المثال: لا تكفي اللغة لتكون عاملًا كافيًا لنجاح برامج معينة، وبعض الممارسات الاجتماعية التقليدية لا تكفي كذلك لتحقيق ذات الهدف لتكون نموذجًا يُطبق في كل البيئات. ومن هنا، فالتباينات بين المجتمعات لا يمكن أن تتشابه، وذلك حسب ظروف كل مجتمع، ونوعية البيئة التي يعيش فيها أفراده.
وعودة إلى أهمية السياق الاجتماعي، وتجسيره لمجموعة التباينات بين الحكومات كمرسل، وجماهيرها كمستقبل لمختلف البرامج والخطط، لأن كلا الطرفين يمثلان بيئة اجتماعية واحدة، وهمومًا مشتركة واحدة، ويعبران عن تماثلات بيئات أسرية، وثقافة دينية واجتماعية، وقيم وسلوكيات، وعادات، كلها واحدة، وليست فقط متشابهة. وبالتالي، في ظل هذا التماثل الكبير والعميق، فالتباين لا يُذكر، إن لم يكن صفرًا.
إذن، أين المشكلة هنا؟ يرجع الأمر - كما يرى بعض المنظرين - إلى ضبابية المعلومات التي تحتكرها الحكومات، وعدم إشراك الجماهير فيها، بالإضافة إلى غياب الشفافية - وهي ذات إشكالية التباين الحاصلة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية - فضلًا عن تصريحات بعض المسؤولين الحكوميين التي تستفز الجماهير، لعدم واقعيتها ومنطقيتها في التطبيق على الأرض.
وبالتالي، تتراكم مستويات التباينات، فتؤدي إلى تأصيل القناعات عند الجماهير بذات الصورة النمطية عن حكوماتهم، وتتضخم «كرة الثلج». ومع ذلك، وفي كثير من البرامج، تخترق الحكومات هذه الترسانات من القناعات، وتنجح في تنفيذ الكثير من برامج الخدمات العامة ذات البعد الخدمي الاجتماعي المباشر. وهذا عائد - بلا شك - إلى تأثير البعد الاجتماعي الرابط بين طرفي هذه العلاقة، وفق سياقاتها الاجتماعية، للقناعة الموجودة أن الحكومات هي جزء من الجماهير، وليست كيانًا منفصلًا عنها. وبالتالي، فهي أكبر من مجرد مقاربات إدارية وقانونية، لأن الحاضنة الاجتماعية لا تزال تحتفظ بالكثير من العوامل التي يمكنها امتصاص الامتعاض الشعبي من بعض الممارسات الحكومية، بقصد أو بغير قصد.
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفـي عماني
0 تعليق