الأمومة بين التوقيت الفطري والتأخر الاجتماعي
تأخر الزواج والإنجاب إلى عمر متقدم قد يُدخل المرأة في تجربة غير مألوفة. مع سنوات طويلة من الانقطاع عن التعامل مع الأطفال داخل الأسرة أو المجتمع، قد تفقد المرأة الألفة أو المهارات الطبيعية التي تساعدها على استيعاب صخب الأطفال وشقاوتهم. وبدلا من أن يكون صوتهم ولعبهم مصدر بهجة، قد يتحول إلى عبء نفسي، خاصة إذا كانت معتادة على حياة هادئة ومستقلة.
التأخير بحجة الوظيفة: بين الطموح والتحدي
في بعض الحالات يكون سبب تأخر الزواج والإنجاب هو تركيز المرأة على بناء مسيرتها المهنية أو تحقيق طموحاتها العملية. ورغم أهمية تمكين المرأة في العمل، إلا أن هذه الخيارات قد تؤثر على استعدادها للأمومة لاحقا. المرأة التي اعتادت على حياة مهنية منظمة قد تجد صعوبة في التعامل مع الفوضى الطبيعية التي تصاحب وجود الأطفال. كما أن الضغوط العملية قد تتعارض مع متطلبات الأمومة، مما يزيد من التوتر ويحد من قدرتها على التكيف مع دورها الجديد.
من هنا يجب أن نؤكد على أهمية دور القطاعات العامة والخاصة في تسهيل ظروف العمل للمرأة العاملة، خصوصا الأمهات. يمكن تحقيق ذلك عبر خيارات مرنة مثل:
- تقليل ساعات العمل اليومية للمرأة مقارنة بالرجل، بما يراعي دورها الحيوي في الأسرة.
- تقسيم المهام بين موظفتين بدلا من تحميل موظفة واحدة ساعات عمل طويلة.
- دعم خيارات العمل عن بُعد، وهو ما يتيح للمرأة التوفيق بين عملها ومسؤولياتها الأسرية دون إرهاق.
الفجوة النفسية والتغيرات الجسدية
التقدم في العمر يضيف تحديات جسدية ونفسية على المرأة. جسديا قد تصبح أقل مرونة في التعامل مع متطلبات الأطفال اليومية، كالسهر أو اللعب معهم. نفسيا، قد تعاني من ضغوط نتيجة تغير نمط حياتها بشكل مفاجئ، حيث تنتقل من حياة مريحة ومنظمة إلى مسؤوليات جديدة تحتاج إلى قدر كبير من التكيف والصبر.
الصدمة بين التوقعات والواقع
العديد من النساء يبنين صورة مثالية عن الأمومة خلال سنوات انتظارهن للزواج. يرينها كحالة مليئة بالحنان والدفء، دون أن يدركن حجم التحديات العملية مثل قلة النوم، شقاوة الأطفال، ومتطلباتهم المتكررة. هذه الفجوة بين التوقعات والواقع قد تؤدي إلى صدمات نفسية، تجعل بعض الأمهات يهربن مؤقتا من مسؤولياتهن، مثل الانعزال أو حتى الإغلاق على أنفسهن داخل الغرف.
هل العمر والعمل هما العاملان الوحيدان؟
العمر والعمل عاملان مهمان، لكنهما ليسا الوحيدين. عوامل أخرى تلعب دورا في نجاح الأمومة والحفاظ على العلاقة الزوجية، مثل الدعم الأسري، البيئة الاجتماعية، ومستوى التهيئة النفسية. المرأة التي تتلقى دعما قويا من شريكها أو أسرتها، وتمتلك استعدادا نفسيا لتقبل التغيرات، تستطيع تجاوز التحديات بسهولة أكبر، بغض النظر عن عمرها أو طبيعة عملها.
في هذا السياق، أود الإشارة إلى أهمية هذه الحلول في دعم المرأة العاملة كجزء من رؤية مجتمع متوازن.
التعامل مع الزوج بعد الإنجاب: تحدٍ إضافي
بعد الإنجاب، تجد بعض النساء اللواتي تزوجن متأخرا صعوبة في الحفاظ على التوازن بين دورهن كأمهات ودورهن كزوجات. الإرهاق الجسدي والنفسي الناتج عن تربية الأطفال، خصوصا في مرحلة عمرية متقدمة، قد يؤدي إلى تقليل الاهتمام بالزوج أو تقليل التواصل معه. كما أن اختلاف الأولويات بعد الإنجاب قد يسبب توترا في العلاقة الزوجية، حيث تشعر المرأة بأن طاقتها كلها موجهة للأطفال، مما قد يخلق فجوة عاطفية بينها وبين الزوج.
كيف يمكن التغلب على هذه التحديات؟
رغم صعوبة الأمومة المتأخرة، إلا أن النجاح فيها ممكن من خلال:
1- الدعم النفسي والاجتماعي: مساعدة الشريك والأسرة تخفف من الأعباء.
2- التوازن بين الأدوار: تنظيم الأولويات لتخصيص وقت كافٍ للزوج والأطفال دون التضحية بالراحة النفسية.
3- التواصل المستمر مع الزوج: لضمان فهم مشترك للتحديات والعمل على حلها.
4- مرونة العمل: دعم المؤسسات ببرامج عمل مرنة تسهم في تقليل العبء على المرأة العاملة كأم.
5- طلب المساعدة: سواء من مختصين أو من أفراد الأسرة، لتخفيف الأعباء اليومية.
الأمومة المتأخرة تجربة معقدة تتطلب توازنا دقيقا بين دور المرأة كأم ودورها كزوجة، خاصة عندما تترافق مع مسؤوليات مهنية. رغم التحديات، فإن النجاح ممكن من خلال الدعم، التهيئة النفسية، والتواصل المستمر. الأهم أن تدرك كل امرأة أن الأمومة والزواج ليسا مجرد مراحل عمرية أو قرارات مهنية، بل هما رحلتان غنيتان بالفرص للنمو الشخصي والعائلي، وبناء أسرة سعيدة ومستقرة.
ختاما، أدعو الجهات كافة، من القطاع العام إلى الخاص، لمراجعة سياسات العمل لدعم المرأة العاملة كأم وزوجة، لأن ذلك ليس فقط استثمارا في الأسرة، بل في مستقبل المجتمع بأسره. فتمكين المرأة ودعمها كأم وزوجة هو استثمار في استقرار الأسرة وازدهار المجتمع.
0 تعليق