ناقش المشاركون في المؤتمر نقاط الضعف والقوة في الروايات والسرديات المتعلقة بالتأليف التاريخي العربي، موضحين أن هناك وجهات نظر متعددة وتفسيرات جديدة للسرديات القائمة، ومؤكدين أن السرديات التاريخية تنطوي على العديد من القيود، ومحددة بالوقت والسياق الثقافي والعوامل السائدة حين كتابتها.
وأشار المشاركون إلى ضرورة التمييز بعين الناقد بين الأدلة الواقعية والزخرفة والعناصر الذاتية المنسوجة بشكل معقد داخل السرديات نفسها، وذلك للمساهمة في فهم أكثر دقة وشمولية للتراث والأحداث والشخصيات التاريخية، والكشف عن التحيزات التي تمتاز بها السرديات المتداولة من خلال مواجهتها، ووضعها تحت مجهر النقد الصارم للكشف عن وجهات نظر جديدة قادرة على تقديم رؤى جديدة للأحداث التاريخية الغامضة، وتقديم تصور أكثر شمولا وتمثيلا للأصوات والخبرات والمساهمات المتنوعة في النسيج التاريخي.
وأكد د.عدنان بدران المستشار الأعلى لجامعة البترا ومجلس أمنائها خلال ترأسه الجلسة الأولى على ضرورة الإطلاع الشامل والدقيق على التاريخ والجغرافيا والديمغرافيا العربية، لإيجاد الحقيقة التي يسعى البعض إلى طمسها وتزيفها من خلال إخفائها وإحلال معلومات مغالطة مكانها تبعًا للمصالح الشخصية والسياسية القائمة.
وقال د.الصادق الفقيه الأمين العام لمنتدى الفكر العربي: إن السرديات والمرويات التاريخية تشكل الذاكرة الجماعية، ولا تقتصر على جوانب التاريخ والجغرافيا فقط، بل تتعداه لتشمل جوانب الحياة كافة بما فيها ما يتعلق بالجوانب الدينية والمذهبية، ومن هنّا على المفكرين العرب أن ينشغلوا انشغال حقيقي لتتبع النماذج العربية للسرديات والمنعطفات التي رافقت هذه النماذج.
وتحدث د.باسم الجمل المدير التنفيذي لمركز مجتمع للدراسات الثقافية والتاريخية، حول إعادة قراءة التاريخ العربي من خلال أسس معرفية جديدة، ترتكز على نقد السرديات التقليدية التاريخية والدينية، بعيداً عن تأثير بعض قراءات الاستشراق الأوروبي، خصوصاً اللاهوتية التي حرّفت فهم النصوص التاريخية القديمة، وأخرجت هذه النصوص من سياقاتها التاريخية والجغرافية.
وأشار د.نبيل عبد الفتاح مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، إلى ضرورة الحذر في التعامل مع السرديات لكون معظمها يغلب عليه الطابع الذاتي أو الطابع السلطوي، الأمر الذي يؤدي إلى ما يعرف اليوم بفوضى السرديات، مؤكدًا أهمية دراسات السرديات من خلال العقل النقدي والتنويري والمنفتح، الذي يستجيب للمتغيرات والتناقضات التي يمكن أن يخرج بها الباحث.
وتناول د.عبدالإله بلقزيز أستاذ الفلسفة والإسلاميات في جامعة الحسن الثاني، مفهوم السرديات وأنواعها، ودورها في تشكيل الوعي التاريخي والاجتماعي والسياسي، كما قدم مقاربة تحليلية تُعنى بتفكيك هذه السرديات من حيث بنيتها، ومضامينها، ووظيفتها، موضحًا بأنها منظومات قوليّة محبوكة بعناية، حاملة لرسائل ومضامين بعينها، تهدف إلى استمالة المتلقي أو التأثير فيه، وتختلف باختلاف موضوعاتها.
وأشار د.يوسف أبو عواد المختص في الدراسات اللسانية العربية، إلى أن جزءًا كبيرًا من السرديات هدفها إقناع متلقيها واستمالته، وأن من يضع السردية لا يلتزم الصرامة العلمية ولا يقاربها في نقل الأخبار، إذا أن كثيرًا ما تعتمد السرديات على الخيال أو على أخبار عن حوادث قد تصرمت في الزمان، وأن صاحب السردية غالبًا ما يخلط بها الوقائع ليخرج بنسيج لغوي له طابع قصصي جذاب لتحقيق غرضه في استمالة الآخر.
وقال د.أنطوان يوسف الكاتب وأستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية: إن نقد أي سردية لا يعني بضرورة انهاء وجودها، بل هو بداية لسردية جديدة، فقد أنشأ الفيلسوف الألماني شلايرماخر منذ القرن التاسع عشر تيارًا فلسفيًا ألسنيًا انبثق عنه تأويل موسع لعدد من السرديات لا يندرج تحت التفسير القائم على القواعد الصارمة والموضوعية.
وأوضح د.عدنان ملحم الباحث والأكاديمي بجامعة النجاح الوطنية الفلسطينية، ضرورة تفكيك السرديات التوراتية الكلاسيكية، خاصة تلك التي تعتبر فلسطين موطن الأحداث التوراتية، وإعادة قراءة النصوص التوراتية وفق مقاربة تجمع بين الدراسات اللغوية، والآثارية، والجغرافية، وكشف التزوير الاستعماري، الذي قام به الاستشراق الأوروبي لدعم المشروع الصهيوني.
وبَيَّنَ د.جمال جودة الأكاديمي بجامعة النجاح الوطنية الفلسطينية، دور الرواد العرب الأوائل لنظرية الجغرافية التوراتية في جزيرة العرب، مستشهدًا بعدد من الباحثيين اللغويين والكُتّاب والمؤرخين العرب، والنصوص التاريخية، وموكدًا ضرورة تنقية التاريخ العربي من الروايات الإسرائيلية، للوصول إلى حقائق الأكيدة.
وأضاف د.عبد المجيد الشرفي المتخصص في الفكر والحضارة الإسلامية، أنه لا يمكن فصل البحوث والمكتشفات الأثرية عن النصوص المكتوبة، وأنه لا يمكن فصل تاريخ الدين اليهودي عن التاريخ المسيحي والبيزنطي والفارسي، وأن هناك العديد من النظريات المطروحة بحاجة إلى دلائل لتأكيد صحتها.
وتناولت د.ناجية الوريمي أستاذة الحضارة العربيّة الإسلاميّة بالجامعة التونسيّة، تعقيدات التراث العربي وتداخلاته مع الأبعاد التاريخية والمعرفية، مشيرة إلى الحاجة للمراجعة النقدية والتحليل البنيوي للخطابات السائدة، مؤكدةً ضرورة استثمار السياقات المعاصرة، وإعادة إنتاج التراث بطرق تتماشى مع التحديات الحديثة.
وأشار د.محمد زكاري أستاذ الفلسفة والتأويل إلى السرديات في منظومة التفسير، مبينًا تحليل المنهجيات الكلاسيكية في تفسير النص القرآني، كما أوضح العلاقة بين التفسير كأداة معرفية والسلطة السياسية والاجتماعية التي فرضتها المذاهب المختلفة، واستمرارية التفسير الكلاسيكي في السيطرة على العقل الإسلامي من خلال أدوات تقليدية تُعزل النص عن سياقه الحاضر.
وتناول د.عز الدين العلام أستاذ العلوم السياسية، أهمية أن يتم نقد السرديات التاريخية من منظور شمولي لا يقتصر فقط على مضامين السردية، بل يتعداها ليصل إلى المنهج المتبع في النقد القائم على معرفة المؤلف، ونوعها، موضحًا أن الثقافة العربية بعمومها قائمة على ثقافة الأنواع المتعددة للسرديات.
وبين د.زهير المالكي الباحث والناشط الحقوقي في ورقته أثر السرديات اليهودية والمسيحية على التفسير الإسلامي، كما استعرض التحولات التي طرأت على التدوين التاريخي والتفسير القرآني مع استخدام منهجيات جديدة لتحليل النصوص واستيعاب التأثيرات الثقافية.
وأوضح د.المنصف بن عبد الجليل أستاذ الحضارة بالجامعة التونسيّة في ورقته، إشكالية نشأة السرديات وانتقال الرواية بين المتون المختلفة، مسلطًا الضوء على السرديات الإسرائيلية (التلموديات) التي تسربت إلى النصوص الإسلامية عبر التفسير والتاريخ، وما ترتب عليها من تأثيرات على الفكر الإسلامي.
وتناول د.يوسف الشويري مدير عام مركز دراسات الوحدة العربية، الحركات الإسلامية من خلال منهجية دقيقة تشمل الحقبة التاريخية، والبنية الاجتماعية، والدوافع المؤثرة، موضحًا أن التوسع الغربي كان دافعًا رئيسيًا في بروزها، مبينًا أن هذه الحركات لم تكن فقط أداة مقاومة، بل ساهمت أيضًا في بناء دول، كما ربط بين الإصلاحية الإسلامية وانتشار الفكر الليبرالي وتأثيره على حركات التحرر.
وتحدث د.خالد زيادة مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في بيروت، حول تحولات الفكر العربي من خلال مراجعة منهجية لمراحل تطور الكتابة التاريخية والقومية العربية والحركات الإسلامية، كما استعرض تطور مفهوم التحقيب التاريخي في الفكر العربي، الذي لا يقتصر على تسجيل الوقائع، بل يبرز كأداة لفهم تبدل الأسئلة والإجابات عبر الحقب.
هذا، ويذكر أنه جرى نقاش موسع بين الحضور والقضايا التي طُرحت.
0 تعليق