‏إسرائيل وحرب الغرب على نفسه‏

الغد 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
رمزي بارود*‏ - (كاونتربنش) 3/12/2024
‏تشكل مذكرات ‏‏الاعتقال التي صدرت عن "المحكمة الجنائية الدولية" ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت كارثة دبلوماسية لإسرائيل، ‏‏وفقًا لما ذكرته‏‏ مجلة "الإيكونوميست"، وهي "وصمة عار قاسية" للزعيم الإسرائيلي، ‏‏كما كتبت‏‏ صحيفة "الغارديان"، و"ضربة كبيرة"، كما قالت صحف ومعلقون آخرون.‏اضافة اعلان
‏لكن المصطلح الذي يبدو أن الكثيرين يتفقون عليه هو أن مذكرات التوقيف تشكل "‏‏زلزالاً"‏‏، على الرغم من أن الكثيرين يشككون في أن نتنياهو سيرى نفسه وهو يمثل بالفعل أمام المحكمة.‏
‏ويجد المعسكر المؤيد لفلسطين، الذي أصبح يمثل في الآونة الأخيرة غالبية الجنس البشري، نفسه موزعًا بين مشاعر عدم التصديق، والشك، والتفاؤل. فقد أظهر صدور المذكرات أن جسد النظام الدولي ما يزال فيه نبض -ولو أنه خافت- لكنه كاف لإعادة إيقاد شمعة الأمل في أن المساءلة القانونية والأخلاقية ما تزال ممكنة.‏
هذا المزيج من المشاعر واللغة القوية هو انعكاس للعديد من التجارب المهمة والمترابطة: أولاً، نوع الإبادة غير المسبوقة التي تنفذها إسرائيل حاليًا ضد الفلسطينيين في غزة؛ ثانيًا، الفشل الذريع للمجتمع الدولي في وقف الإبادة الجماعية المروعة التي تجري في القطاع؛ وأخيرًا، حقيقة أن النظام القانوني الدولي فشل تاريخيًا في محاسبة إسرائيل -أو أي من حلفاء الغرب في أي مكان- على انتهاكهم القانون الدولي.
الزلزال الحقيقي هو حقيقة أن هذه كانت المرة الأولى في تاريخ "المحكمة الجنائية الدولية" التي يحاسَب فيها زعيم موال للغرب على جرائم حرب. في الحقيقة، كانت الغالبية العظمى من أوامر الاعتقال والاحتجاز الفعلي لمتهمين بارتكاب جرائم حرب قد استهدفت، تاريخيًا، الجنوب العالمي، ‏‏وأفريقيا‏‏ على وجه الخصوص.‏
ومع ذلك، ليست إسرائيل دولة "غربية" عادية. كانت الصهيونية اختراعًا استعماريًا غربيًا، وما كان إنشاء إسرائيل ليكون ممكنًا لولا الدعم الغربي المتحمس الذي استمر من دون عوائق.‏
‏منذ إنشائها على أنقاض فلسطين التاريخية في العام 1948، لعبت إسرائيل دور القلعة الاستعمارية الغربية في الشرق الأوسط. وقد تم تصميم الخطاب السياسي الإسرائيلي بأكمله على أساس وضعه ضمن الأولويات والقيم الغربية المفترضة: الحضارة؛ الديمقراطية؛ التنوير؛ وحقوق الإنسان وما شابه.‏
‏كانت الحشود المؤمنة في أميركا مدفوعة ‏‏بالفكرة‏‏ التوراتية القائلة بأن "من يبارك إسرائيل يبارَك، ومن يلعن إسرائيل يُلعن". وحتى الليبراليون، وضعوا إسرائيل هم أيضًا في إطار خطاب روحاني، على الرغم من أنهم فضلوا، بشكل غير متناسب، تصنيف إسرائيل على أنها "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، مؤكدين باستمرار على "العلاقة الخاصة" و"الرابطة غير القابلة للكسر" وبقية هذه المقولات.‏
وهكذا، لن يكون من المبالغة الادعاء بأن الاتهام الذي وجهته "المحكمة الجنائية الدولية" لنتنياهو، كممثل للمؤسسة السياسية في إسرائيل، وغالانت، كزعيم للطبقة العسكرية، هو أيضًا اتهام للولايات المتحدة.‏
‏غالبًا ما يقال إن إسرائيل لم تكن لتتمكن من مواصلة حربها، وبالتالي الإبادة الجماعية التي تنفذها في غزة، من دون الدعم العسكري والسياسي الأميركي. ووفقًا لموقع "برو-بابليكا" ProPublica الإخباري الاستقصائي، فإنه في السنة الأولى من الحرب، ‏‏شحنت‏‏ الولايات المتحدة إلى إسرائيل أكثر من 50.000 طن من الأسلحة والذخائر.‏
كما أن وسائل الإعلام الأميركية الرئيسية والصحفيين مسؤولون أيضًا عن تلك الإبادة الجماعية. لقد أعلوا من شأن نتنياهو وغالانت، اللذين أصبحا الآن مجرمَي حرب، إلى جانب قادة سياسيين وعسكريين إسرائيليين آخرين، ليكونوا كما لو أنهم المدافعون عن "عالم متحضر" ضد "البرابرة". وصورهم أولئك في الدوائر الإعلامية المحافظة كما لو أنهم الأنبياء الذين يقومون بعمل الله ضد الوثنيين المفترضين في الجنوب.‏
‏هؤلاء أيضًا وجهت إليهم "المحكمة الجنائية الدولية" لوائح اتهام؛ في نوع من الاتهام الأخلاقي، و"وصمة عار قاسية"، لا يكاد يمكن محوها إلى الأبد.
‏عندما تقدم كريم خان، المدعي العام لـ"المحكمة الجنائية الدولية"، بطلبات إصدار أوامر الاعتقال في أيار (مايو)، كان الكثيرون يشككون في جدوى هذه الخطوة، وقد فعلوا لأسباب وجيهة. كان الإسرائيليون يشعرون بأن بلدهم تمكن من تأمين الدعم اللازم لمنع صدور مثل هذه المذكرات في المقام الأول. واستشهدوا بمحاولات سابقة، بما في ذلك قضية أمام محكمة بلجيكية حاول فيها ضحايا الوحشية الإسرائيلية في لبنان محاسبة رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، أرييل شارون، على دوره في مذابح صبرا وشاتيلا. ولم يقتصر الأمر على إسقاط تلك القضية في العام 2003 فحسب، بل تعرضت بلجيكا لضغوط من الولايات المتحدة ‏‏لتغيير‏‏ قوانينها الخاصة، بحيث لا تتضمن الولاية القضائية العالمية في حالة قضايا الإبادة الجماعية.‏
والأميركيون أيضًا لم يكونوا قلقين كثيرًا، لأنهم كانوا مستعدين لمعاقبة قضاة "المحكمة الجنائية الدولية"، وتشويه سمعة خان نفسه. وكما جاء في منشور حديث على وسائل التواصل الاجتماعي شاركه السناتور الأميركي توم كوتون، فإنهم مستعدون حتى "لغزو لاهاي" نفسها.‏
‏في الواقع، ليست هذه هي المرة الأولى التي يستعرض فيها الأميركيون، الذين ليسوا من الموقعين على "نظام روما الأساسي"، وبالتالي ليسوا أعضاء في "المحكمة الجنائية الدولية"، عضلاتهم ضد أولئك الذين حاولوا مجرد تطبيق القانون الدولي. في أيلول (سبتمبر) 2020، ‏‏فرضت‏‏ الحكومة الأميركية عقوبات على المدعية العامة لـ"المحكمة الجنائية الدولية" في ذلك الوقت، فاتو بنسودا، ومسؤول كبير آخر في المحكمة، فاكيسو موتشوشوكو.‏
حتى أولئك الذين أرادوا رؤية المساءلة عن الإبادة الجماعية الإسرائيلية قيد التطبيق كانت تعتريهم الشكوك، خاصة وأن الحكومات الغربية الموالية لإسرائيل، مثل حكومة ألمانيا، تدخلت من أجل محاولة منع إصدار أوامر الاعتقال في المقام الأول. وساهمت التأخيرات غير المعقولة في الإجراءات في تعزيز الشكوك، خاصة وأنه تم التعريض بخان نفسه فجأة، على أساس "سوء سلوك جنسي" مزعوم.‏
‏مع ذلك، مع وبعد كل هذا، في 21 تشرين الثاني (نوفمبر)، صدرت مذكرات الاعتقال التي اتهمت نتنياهو وغالانت بارتكاب "جرائم حرب" و"جرائم ضد الإنسانية" -الجرائم الأخرى التي يعاقب عليها القانون في اختصاص "المحكمة الجنائية الدولية" هي الإبادة الجماعية والعدوان.‏
وبالنظر إلى أن أعلى محكمة في العالم، "محكمة العدل الدولية"، ‏‏وجدت‏‏ بالفعل أنه من المعقول أن ترقى الأفعال التي ترتكبها إسرائيل إلى الإبادة الجماعية، وهي تحقق حاليًا في القضية، فإن إسرائيل، كدولة، وكبار القادة الإسرائيليين أصبحوا فجأة، وعن جدارة، أعداء للإنسانية.‏
‏في حين أن من الصواب والمشروع القول بأن ما يهم أكثر هو النتيجة الملموسة لهذه القضايا القانونية -إنهاء الإبادة الجماعية ومحاسبة مجرمي الحرب الإسرائيليين- فإننا يجب ألا نفوت المعنى الأكبر لهذه الأحداث المزلزلة.‏
‏إن "محكمة العدل الدولية" و"المحكمة الجنائية الدولية" هما في الأساس مؤسستان غربيتان تم إنشاؤهما من أجل الضبط الشرطي للعالم من خلال تعزيز المعايير المزدوجة التي يتبناها النظام الدولي الذي هيمن عليه الغرب بعد الحرب العالمية الثانية.‏
إنهما المعادل القانوني لـ"اتفاقية بريتون وودز"، التي قوننت النظام النقدي الدولي بحيث يخدم المصالح الغربية ومصالح الولايات المتحدة. وعلى الرغم من أن المحكمتين تُعليان، على المستوى النظري، من شأن القيم الجديرة بالثناء عالميًا وتدافعان عنها، إلا أنهما كانتا في الممارسة العملية مجرد أدوات تمكّن سيطرة النظام الغربي وهيمنته العالمية.‏
‏على مدى سنوات، كان العالم يشهد حالة من التغيير الواضح الذي لا رجعة فيه. كانت قوى جديدة تصعد وأخرى تتراجع. ولم تكن الاضطرابات السياسية التي شهدتها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا سوى انعكاسات للصراعات الداخلية الدائرة داخل الطبقات الحاكمة في الغرب. وكان الصعود المذهل للصين، والحرب في أوروبا، والمقاومة المتزايدة في الشرق الأوسط، نتائج ومسرِّعات لهذا التغيير.‏
لذلك تعالى صوت الدعوة المستمرة إلى إجراء إصلاحات في النظام الدولي بعد الحرب العالمية بحيث يعكس بطريقة أكثر إنصافًا الحقائق العالمية الجديدة. وعلى الرغم من المقاومة الأميركية - الغربية العنيدة للتغيير، استمرت التشكيلات الجيوسياسية الجديدة في الظهور، بغض النظر عن كل شيء.‏
‏شكلت الإبادة الجماعية الجارية في غزة لحظة فاصلة في هذه الديناميات العالمية. وقد انعكس ذلك في لغة كريم خان عندما طلب إصدار أوامر الاعتقال، مشددًا على مصداقية المحكمة. ‏‏وقال خان‏‏ في مقابلة حصرية مع شبكة (سي. إن. إن) في العشرين من أيار (مايو): "هذا هو السبب في أن لدينا محكمة. الأمر يتعلق بالتطبيق المتساوي للقانون. لا يوجد شعب أفضل من الآخر. لا يوجد شعب في أي مكان يتكون من مجموعة من القديسين".
كان التركيز على المصداقية هنا تتويجًا للفقدان الواضح للمصداقية على جميع الجبهات. وبالكاد يجب أن يكون هذا مفاجئًا لأنه كان الغرب، الذي نصب نفسه بطلاً لحقوق الإنسان، هو الكيان السياسي نفسه الذي امتدح الإبادة الجماعية الإسرائيلية ودافع عنها وعمل على إدامتها.‏
‏في حين يود المرء أن يصدق أن مذكرات التوقيف التي صدرت عن "المحكمة الجنائية الدولية" صدرت بشكل حصري من أجل ضحايا الإبادة الجماعية الإسرائيلية، فإن الكثير من الأدلة تشير إلى أن هذه الخطوة غير المتوقعة كانت محاولة غربية يائسة لإنقاذ أي قدر ضئيل متبقٍّ من المصداقية ربما كان الغرب قد حافظ عليه حتى تلك اللحظة.‏
في المقابل، حافظت حكومة الولايات المتحدة، المنتهكة المستمرة غير النادمة لحقوق الإنسان، على موقفها القوي المتمثل في الدفاع عن إسرائيل، وهاجمت "المحكمة الجنائية الدولية" بسبب أوامر التوقيف، وليس مجرمي الحرب الإسرائيليين لارتكابهم الإبادة الجماعية.‏
‏لكن الصراع في أوروبا كان أكثر وضوحًا، وانعكس في موقف ألمانيا التي ‏‏قالت‏‏ إنها "ستدرس بعناية" مذكرات الاعتقال، لكنَّ "من الصعب تخيل أننا سنقوم باعتقالات على هذه الأسس".‏
ما يزال المرء يأمل في أن تؤدي التحولات في القوى العالمية في نهاية المطاف إلى إنقاذ القانون الدولي من نفاق الغرب وازدواجيته وانتهازيته. لكنَّ ما هو واضح في الوقت الراهن هو أن الصراع في الغرب نفسه سيكتسب المزيد من الزخم فحسب. هل سيكون أولئك الذين خلقوا الخطر الصهيوني الإسرائيلي هم القوى نفسها التي ستهدمه؟ الشك يخالط المرء.‏

*رمزي بارود Ramzy Baroud: كاتب وصحفي فلسطيني ومحرر صحيفة "وقائع فلسطينية" Palestine Chronicle، وهو مؤلف لستة كتب عن فلسطين، منها: "أبي كان مقاتلاً من أجل الحرية"  My Father was a Freedom Fighter، و"الأرض الأخيرة "The Last Earth، و"هذه السلاسل سوف تُكسر: قصص فلسطينية عن النضال والتحدي في السجون الإسرائيلية" These Chains Wil Be Broken: Palestinian Stories of Struggle and Defiance in Israeli Prisons، (منشورات كلاريتي، أتلانتا). آخر كتبه كمحرر مشارك مع إيلان بابيه، هو "رؤيتنا للتحرير‏: قادة ومفكرون فلسطينيون منخرطون يتحدثون علنًا" Our Vision for Liberation: Engaged Palestinian Leaders and Intellectuals Speak Out. وبارود باحث غير مقيم في مركز الإسلام والشؤون العالمية (CIGA)، جامعة إسطنبول زعيم، وفي "مركز الشرق الأوسط الأفريقي" (AMEC) ومقره جوهانسبرغ.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Israel and the West’s War on Itself

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق