الانجاب جريمة.. والتبني هو الحل

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

الثلاثاء 10/ديسمبر/2024 - 09:10 ص 12/10/2024 9:10:32 AM

 

فيلم "الفتاة ذات الإبرة" Girl With the Needle للمخرج السويدي "ماغنوس فون هورن".
الذي كتب سيناريو العمل بالتعاون مع سيناريست اخر وبالاتكاء على القصة الحقيقية للقاتلة الدنماركية المتسلسلة "داغمار أوفرباي" التي ساعدت النساء الفقيرات على قتل أطفالهن غير المرغوب فيهم دون ان تصارحهم بذلك وحُكم عليها بالإعدام للمرة الأولى عام 1921 ولكن تم تغيير الحكم لاحقًا إلى السجن مدى الحياة 
نافس الفيلم على سعفة مهرجان ( كان ) الذهبية في   دورة المهرجان  السابع والسبعين -و كان يستحقها وعن جدارة - والترشيح وصل ايضا
لفيلم ( حمام الشيطان )النرويجي والفيلم الامريكي المميز ( المادة ) 
و تدور احداث الفيلم في (كوبنهاجن ) حيث تعمل الشابة "كارولين " في أحد المصانع بعد أن غيبت الحرب العالمية الاولى زوجها وظلت تراسله طوال عام بأكمله دون ان يأتيها منه اي رد فاعتبرته هي ومالك المصنع في عداد الموتى.. واستغل الاخير فقر وعوز الفتاة وساعده تغيب زوجها وطردِها من منزلها لعدم قدرتها على دفع اجرته فأغدق عليها( بالكثير القليل )الذي لا تملكه وكانت في أمس الحاجة إليه.. وبمرور الوقت وقع البرجوازي الثري المدلل الذي ورث المصنع عن عائلته في غرام كارولين واقام معها علاقة وهو العاجز الذي يتكؤ على عصاه ولا يعصي لامه أمرًا فحملت منه كارولين سفاحًا وعندما طالبته بالزواج وافق ولكن الموافقة الحقيقة لابد وان تصدر عن أمه التي أهانت كارولين مرتين.. المرة الاولى عندما استحضرت طبيبا وطلبت منها نزع ملابسها الداخلية لتتأكد من حملها والمرة الثانية عندما قامت بطردها من البيت ومن المصنع رغم تأكدها من حملها لانها لن تقبل بها زوجةً لولدها البرجوازي الذي جلس يبكي عاجزًا امام تسلط أمه وترك حبيبته وجنينها ليواجهان وحدهم مصير غامض ومظلم.. وقبل تلك الواقعة اعتقدت كارولين خطأً ان الحظ قد ابتسم لها وان الثري البرجوازي سيتزوجها وفي تلك الاثناء عاد زوجها من الحرب عاجزًا منكسرًا منكسًا ومشوهًا داخليا وخارجيا فقامت بطرده بمنتهى القساوة من بيتها وحياتها طامعةً في حياة جديدة.. وكمصير غالبية الفقيرات خسرت كارولين كل شيء.. خسرت الحبيب الثري والزوج والوظيفة ليتلقفها الشارع وتبحث فيه عن احقر الوظائف.. وذهبت بعد ضياع كل شيء لحمام السيدات ومعها ابرة كبيرة حاولت من خلالها اجهاض نفسها بنفسها فأدركت احدى السيدات ما كانت تنوي فعله فساعدتها على الابقاء على حياتها وحياة الجنين ووعدتها بمساعدتها بعد وضعه بعرضه للتبني لاحد الاسر الميسورة التي لا تنجب لترتاح من عبء الانفاق عليه وتضمن له حياة كريمة مع اسرة تواقة لاحتضانه.. وبالفعل صدقت كارولين عرض السيدة وذهبت لها بالرضيعة التي وضعتها في الشارع والتي تعلم جيدًا انها لا تستطيع هي وزوجها الانفاق عليها رغم ابداء الزوج رغبته في التشبث بطفلة زوجته من رجل اخر وانها هبة منحت لهم بعد أن أصابته الحرب بالعجز لكن واقعية كارولين وادراكها لفقرها هي وزوجها دفعها للمضي في خطة السيدة التي عرضت عليها طرح رضيعتها للتبني ونصحتها بعدم تسميتها ليكون الامر سهلا عليها وبالفعل اخذت السيدة طفلة كارولين ثم قالت لها بانها مدينة لها بهذا المعروف وانها سوف تخلصها من رضيعتها التي لا تستطيع الانفاق عليها وتخلى عنها أبيها البيولوجي الذي مارس دور ذكر النحل واختفى..و عندما ذهبت كارولين لتلك السيدة وجدتها في نوبة مرض وتحتاج للمساعدة فعرضت عليها باعتبارها مدينة لها بمال ان تكون ممرضة لها ! ولم تكتفي تلك السيدة بذلك رغم احتياجها لها فعرضت ( كارولين ) على السيدة ان تبيع لها لبنها وقالت لها جملة من اكثر الجمل قسوة ومأساوية وتعبر بشكل مؤلم وصادم عن حال السيدات الفقيرات وما يتكبدن في هذه الحياة الظالمة العبثية ( أمي كانت ايضا تبيع لبنها لاطعامنا ) فتاريخ الفقيرات يعيد نفسه.. الفقيرات من امثال كارولين وامها ليس لديهن سوا اجسادهن وما يخرج منها ( لبن ) ( جنين ) فيبيعونه ! يبيعون الجسد ويبيعون ما يخرج من هذا الجسد من اجل البقاء على قيد تلك الحياة الجائرة ! وبالفعل استغلت العجوز القاتلة (داغمار ) شباب كارولين وجسدها وصحتها ولبنها لمساعدتها في جرائمها ضد الأجنة والرضع وضد الانسانية بعد ان أوهمتها انها  تدير وكالة تبني سرية تحت ستار متجر حلوى لمساعدة الأمهات الفقيرات على وضع أطفالهن حديثي الولادة غير المرغوب فيهم في دور الحضانة وعرضهم للتبني.. وحينما تقترب كارولين من (داغمار ) سرعان ما تواجه الواقع الكابوسي الذي دخلته عن غير قصد لتكتشف ان " داغمار " تقتل الاطفال بشتى انواع الطرق وتتخلص منهم في المصارف الصحية ! ولا تمنحهم -كما اوهمتها-  فرصة ثانية للحياة مع أسر محترمة ترعاهم وتنفق عليهم.. فالفيلم يتعرض لهذا الجانب المظلم والمأساوي من حيوات بعض البشر من جانب والانسانيات التي قد تظهر ايضا ونجدها في أحلك الأماكن وأقلها توقعًا من جانب اخر..فالفيلم قد تعرض لسيكوباتية فكر وسلوك ( داغمار ) وقسوة كارولين في بداية رحلتها مع تلك الحياة القاسية وما تعلمته خلال تلك الرحلة.. لينتهي الفيلم وهي اكثر نضجا وانسانية.. وكل ما شاهدناه من احداث ومآسى في هذا الفيلم يمكن -و بمنتهى الاريحية-  احالتها للحرب وتأثيراتها وتبعاتها البشعة على المجتمع وسلوك افراده وخصوصا النساء اللاتي ظهرن في الفيلم -و منذ اولى مشاهده - أكثر قسوة وبكثير من الرجال.. فالرجال هزمتهم الحروب وفقدوا فيها كل شيء تقريبا  فعادوا بانكسار داخلي كبير جعلهم اكثر لينًا وتعاطفًا وانسانية أو استسلامًا من المرأة التي عاشت بمفردها وواجهت الحياة وحيدةً وعافرت وعانت واحتدت واخشوشنت روحها قبل يديها فصارت اكثر قسوة من الرجال الذين ملئتهم الشروخ.. وكنوع من انواع حماية النفس وكآلية دفاعية نفسية تصدر النساء دومًا القسوة للواجهة.. فعندما تكون المرأة وحيدة وتجابه كل شيء بمفردها لابد وان تتشرس.. وكما قست عليها الحياة تقسو هي على نفسها وعلى من حولها.. ففي اول مشهد في الفيلم نشاهد صاحب البيت الذي لم يطالب "كارولين " بأجرة المنزل لمدة ٦ اشهر كاملة.. وعندما جاءته امرأة اخرى لتسكن في البيت بدلًا منها حرص المخرج على اظهار صاحب العقار رحيمًا مشفقًا على كارولين وقال لها نصًا (انا لست شريرا بل عطوفًا وطيب القلب وسأجد لك بيت آخر بسعر اقل ) وبالفعل أوجد الرجل لفتاة المصنع سكنًا بديلًا اما الساكنة الجديدة فبدت ملامحها في منتهى القسوة ولم تتعاطف مع كارولين التي كان عليها اخلاء البيت لها بل وقامت المستأجرة الجديدة وبمنتهى القسوة بصفع ابنتها (التي لم يعجبها المنزل ) فلا بدائل ولا خيارات أمامها الا هذا البيت لها ولابنتها فقالت عنه بنبرة قاسية وانهزامية ( أنه يفي بالغرض ).. ونطقت تلك الكلمات بعنفوان شديد ودون ان تنظر للبيت او لمن حولها.. فالبيت كان حقيرًا رغم ان "كارولين " ذهبت لما هو أحقر منه ! فالحرب جعلت المجتمع أنثوي الطابع وبامتياز عندما اختفى الرجال وبالتالي اختفى دورهم من المشهد الحياتي اليومي.. فغيبوا بالموت.. ومن بقي منهم على قيد هذه الحياة عاد منكسرًا مشوهًا منكسًا عاجزًا كزوج كارولين.. وعاشت النساء في هذا الواقع وفي هذا المجتمع وحيدات فقيرات ضعيفات وكان عليهن العمل في احقر المهن لتوفير المسكن والمأكل وتم استغلالهم ليس فقط للعمل بأجور غير عادلة بل تم استغلالهم جسديًا فحملت الكثير من النساء سفاحًا وحتى المتزوجات كن لا يستطعن الانفاق على اطفالهم الرضع وهنا جاء دور ( داغمار ) لتساعد تلك النساء بارتكابها جرائم في حق الأطفال وفي حق الانسانية بقتل الرضع والادعاء بعرضهم للتبني ! وفي محاكمة ( داغمار ) -التي طالب فيها الاهالي وطالبت فيها النساء بشنق القاتلة - كان دفاعها وكانت حيثياتها انها ساعدت تلك النساء..و ان الاطفال الذين جاءوا للحياة كانوا مصدر ألم لأمهاتهم وعبء كبير عليهن فكان الاجدر بهن -من وجهة نظرها - ان تشكرها تلك النساء لانها ساعدتهم في التخلص من الاجنة والرضع غير المرغوب فيهم.. وتوجهت للنساء بسؤال هو:  هل كنتن تستطعن اطعام هؤلاء الرضع ؟ ام انني كنت الخلاص لكم من هذا العبء ؟ وان الرضع الذين قتلتهم انا قد تسببوا لكم بالتعاسة وبالتالي كان لابد من التخلص منهم ؟ وعن كذبتها بشأن التبني توجهت ( داغمار )  للنساء مرة اخرى لتواجههن بواقع مرير مفاده ان الاسر المحترمة التي تريد التبني هل ستقبل باطفال لقطاء مجهولي النسب والهوية جاءوا للحياة سفاحًا ؟ وبعد دفاع ( داغمار ) الذي يبدو منطقيًا على الاقل من وجهة نظرها ساد الصمت قاعة المحاكمة بعد ان كانت تضج بصراخ الامهات والاهالي ومطالباتهم بشنق المجرمة والتي لم تشنق وخففت العقوبة للسجن مدى الحياة ولم تعترف ( داغمار ) على كارولين.. فقد احبتها ولم توشي بها.. فكارولين صدقت بالفعل رواية التبني ولم تشارك في قتل الأطفال.. وكان تعلم وتعي ( داغمار ) جيدا انها تسببت لكارولين بأذى كبير وأدخلتها في دائرة الإدمان لتغيب عن الواقع وعن الوعي وأن كارولين كانت تحب طفلتها وقامت بإرضاعها وعمرها ٧ سنوات فصارت ابنتها بالرضاعة وذلك الشيء قرب بالطبع بينها وبين طفلة داغمار 
التي انتزعت منها  بعد محاكمتها وتم ايداعها في دار للايتام وبعد انتهاء المحاكمة وبعد ان انتهى ذلك الكابوس الذي عاشته كارولين طوال مشوارها من فقد الزوج الذي عاد عاجزًا مشوهًا وخذلان الحبيب الثري وتضحيتها بابنتها الرضيعة التي قتلتها داغمار كان لابد لها من رفيق وونيس تعيش معه ويعيش معها في هذه الحياة القاسية العبثية.. فكانت تلك الفتاة التي ارضعتها هي الشيء الوحيد الجميل الذي تبقى لها فقررت ان تصير لها أمًا وذهبت لدار الايتام وطلبت تبني طفلة ( داغمار ) وحققت "كارولين " هذه المرة حلم التبني بشكل حقيقي وتبنت فعليًا إبنة داغمار القاتلة فالطفلة لا ذنب لها بل كانت هي ايضا ضحية لهذا الواقع المأساوي.. وكما حلمت كارولين بالتبني وبحياة افضل وأن تمنح رضيعتها فرصة ثانية للحياة ها هي تمنح ابنة القاتلة فرصة ثانية لحياة أفضل بعد أن عايشت وعاصرت الطفلة معها مأساة وسيكوباتية (داغمار )التي علمنا من خلال الفيلم انها هي ايضًا كانت ضحيةً للحرب وللهجر فقد هجرها زوجها ومات ابنائها الثلاثة بعد ولادتهم وكانت بمفردها تماما وهي تلد اول اطفالها فاضطرت لنزع الحبل السري باسنانها ! وبالتالي فتلك الفتاة التي تبنتها كارولين ليست ابنة بيلوجية لداغمار التي تبنتها من قبل كي لا تصبح وحيدة.. ثم أكملت كارولين مشوار التبني كي لا تصبح هي ايضا وحيدة وكي تُمنح الطفلة التي جاءت لهذه الدنيا رغم عنها ودون ان يشاورها أحد في الامر فرصة وحياة جديدة يملؤها الحنان لا القسوة.. فالمأساة مكتملة الاركان.. مأساة عاشتها النساء وحدهن في مجتمع أنثوي بإمتياز كما سبق وأوضحت وكأننا عندنا بسبب الحرب لعصور الصيد ومجتمعات الصيد.. عندما كان يذهب الرجال للصيد وتبقى النساء وحدهن ليشكلن مجتمع على شاكلتهن يشبههن ويضعن هن فيه شروطهن ليستطعن العيش فيه بمفرداتهن اللاتي اخترعنها وفرضها عليهن الظرف المعاش فصرن -في اغلب الاحيان - وحوشًا مشوهة بلا رحمة نزعت عنهن انسانيتهن وضحايا لظروف مجتمعية ومعيشية صعبة جعلتهن عرضةً للاستغلال والانتهاك والوحدة والفقر.. انها لعنة الحرب وقسوة الحياة والفقر والعوز والانتهاك والاستغلال وظروف العمل الصعبة المجحفة غير الادمية.. وكل تلك العوامل جعلت من (داغمار ) قاتلة وجعلت من كارولين امرأة ممزقة تكالب عليها الضباع وتآمرت ضدها الحياة حتى انقشع كل ذلك الغيام الاسود وانتهى الفيلم وكارولين ليست وحيدة بل أمًا عزباء لابنة داغمار -ابنتها هي بالرضاعة - والتي استطاعت هذه المرة انقاذها بعد فشلها في انقاذ رضيعتها البيولوجية - تلك البذرة - التي تركها  البرجوازي الضعيف في أحشائها وذهب مع الريح.. وهام زوجها على وجهه المشوه في الطرقات متنقلا هنا وهناك مع اعضاء السيرك بعد ان صار قدره في الحياة أن يكون مسخًا شوهته الحرب ليصبح أضحوكة المتفرجين المنهزمين ايضًا والذين يضحكون على انفسهم في شخصه ! 
و بتلك السخرية وبالاهانات والتنمر يكسب المشوه المهزوم قوته الذي بالكاد يبقيه على قيد تلك الحياة البائسة حتى يحين الاجل ويقضي الله أمرًا كان مفعولا.. فلا بيده ولا بيد غيره اي حيل سوا محاولة التطبيع مع ذلك الواقع المؤلم والرضا بالحال والمحال والحرب التي فرضت على الجميع وسيق الجميع اليها مجبرين مكبلين فدمرت كل شيء ولم تترك لنا شيئًا سليما او صحيًا..  و الفيلم جاء تتويجًا وتعبيرًا حقيقيًا عن ما تخلفه الحروب من ويلات تضاف لويلاتها وخسائرها البشرية.. ففي الحروب لا نخسر فقط أرواحًا تزهق بل أرواحًا تذبل وتشوه أو تتوحش.. فخسائر الحروب ليست خسائر في الارواح فقط بل خسائر في النفوس وفي الضمائر وتحولات جذرية تحدثها الحروب في نفسيات البشر ومن ثم تحولات جذرية تحدث كذلك في بنية المجتمع ذاته وفي أناسه الذين يصبحون هم كذلك من مخلفات الحروب ! 
و أحداث الفيلم مستوحاة من واقعة حقيقية حدثت بالفعل بعد الحرب العالمية الاولى.. ويسلط المخرج السويدي الضوء من خلال فيلمه على عناصر مستعارة من الملاحم والحكايات الخيالية، أما شخصية بطلة العمل "كارولين " فكانت نموذجًا فريدًا للفتاة الفقيرة البريئة التي خدعتها إمرأة شريرة تشبه الساحرات لذلك سعى المخرج  لوضع هذه القصة المظلمة على مسافة آمنة من الجمهور، وجعلها في بعض الاحيان مسلية وجذابة وفي الوقت نفسه طرح من خلال فيلمه افكارًا وقضايا تدعو للتفكير وتتطلب الوقوف عليها والتوقف عندها طويلًا مثل قضية (الإجهاض ) وقضية ( التبني ) وعمد المخرج على استخدام تقنية الابيص والأسود لتعميق الإحساس بالماضي وأجواء المدينة الخربة المظلمة الحزينة إبان الحرب العالمية الاولى.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق