الفقيد يمتلك بحراً عميقاً وفضاءً واسعاً .. مثقفون: رحيل الأنصاري خسارة فادحة للفكر العربي المعاصر

الوطن البحرينية 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

حسن الستري

أكد عدد من المثقفين والأدباء والنقاد أن رحيل د.محمد جابر الأنصاري مستشار جلالة الملك المعظّم للشؤون الثقافية والعلمية يُعدّ خسارة فادحة للثقافة والفكر ليس في البحرين فحسب، وإنما في الوطن العرب أيضاً، كونه يُعدّ من أبرز روّاد الفكر العربي المعاصر، مشيرين إلى أن سماؤه عالية وبحره عميق، وفضاؤه واسع، وجميعها معطيات تبرهن على صعوبة إدراك شخصيته

وقال د.منصور سرحان: "فقدتْ مملكة البحرين يوم الخميس 26 ديسمبر الجاري أحد أبنائها البررة مستشار جلالة الملك المعظم للشئون الثقافية والعلمية د.محمد الأنصاري، الذي يُعدّ أحد كبار رواد الفكر والسياسة في الوطن العربي. وقد غطّت كتاباته ومقالاته وتحليلاته السياسية ورؤاه الفكرية، مساحة واسعة من صحافة الوطن العربي من خليجه إلى محيطه. وعُد أبرز روّاد الفكر العربي المعاصر بكل ما لهذه الكلمة من معنى".

وتابع: "شغل فكره ورؤاه كبار المفكّرين العرب، باعتباره أحد أبرز روّاد الفكر العربي في التاريخ المعاصر. وقد اعترف بذلك جمهرة من كبار المفكرين والأدباء والكتّاب العرب الذين وثّقت شهاداتهم في كتابي "د.محمد الأنصاري.. المفكر والأفكار" الصادر في عام 2009 بمناسبة تكريمه من قِبل "اللجنة الأهلية لتكريم رواد الفكر والإبداع بمملكة البحرين".

وأضاف سرحان: "لم تكن مهمة تأليف كتاب عن شخصية د.محمد الأنصاري بالمهمة السهلة، على الرغم من توافر مصادر مختلفة ومتعددة يمكن لأي باحث الاستفادة منها.. إلا أن عطاءه المتواصل في الثقافة والأدب والفكر والسياسة، وتبنيه مشروعاً فكرياً شغل الأمة العربية من محيطها إلى خليجها جعل الباحث أمام بحر لجي يصعب شق عبابه بسهولة، مبيناً أن الأنصاري سماؤه عالية وبحره عميق، وفضاؤه واسع، وجميعها معطيات تبرهن على صعوبة إدراك شخصيته والإلمام بها من جوانبها المتعددة".

وأوضح أن الأنصاري بدأ دراسته الأولى في الكتاتيب، وبعد حفظه القرآن الكريم، التحق بالدراسة النظامية التحضيرية وهي المرحلة الابتدائية، ثم درس في مدرسة الهداية الخليفية في عام 1950، وكان ترتيبه الأول على المدرسة، فحصل على بعثة من حكومة البحرين للدراسة في الجامعة الأمريكية في بيروت، حيث أمضى اثنتي عشرة سنة نال خلالها شهادات البكالوريوس، والماجستير والدكتوراه.

وعُيّن في عام 1969 عضواً في مجلس الدولة الذي هو بمثابة مجلس وزراء، وأصبح رئيساً للإعلام، إلا أنه لم يستمر في هذا المنصب طويلاً. واختاره صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة المعظم عندما كان ولياً للعهد، مستشاراً له للشؤون الثقافية والعلمية منذ عام 1989 مع استمراره في عمله الأكاديمي بجامعة الخليج العربي، وعيّنه جلالة الملك المعظم مستشاره للشؤون والثقافية والعلمية.

وتابع سرحان: "تتعدد المواقف والذكريات مع د.محمد الأنصاري الذي تربطني به علاقة وثيقة، فهو الصديق الوفي والأستاذ والمفكر الذي استفدت الكثير من علمه وثقافته وفكره. ومن بين المواقف المهمة وقوفه إلى جانبي من أجل تنظيم أول معرض للكتاب البحريني الذي نُظّم في التاسع من فبراير 2010، وقام بافتتاحه صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ولي العهد في مركز عيسى الثقافي. وعندما علم الأنصاري بأنني انتهيت من تأليف كتاب "المجموعة الخليفية للشباب" وتمّ طبعه من قبل المركز، طلب أن يتمّ تدشينه في معرض الكتاب البحريني، وإهداء النسخة الأولى إلى صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ولي العهد، الذي أشاد سموه بالكتاب وما تضمنه من معلومات"، مضيفاً أنه برحيله عن هذه الدنيا الفانية فقدت مملكة البحرين أحد أبرز رجالاتها في مجال الفكر والثقافة، فقد رحل مخلفاً إرثاً فكرياً وثقافياً نفتخر به على مدى التاريخ.

من جهته، قال الشاعر علي خليفة: "صديقي الحميم وأستاذي الجليل محمد جابر الأنصاري منارة بحرينية فكرية وأدبية، اعترك معنا في تأسيس أسرة الأدباء والكتاب وكان ناقداً وموجهاً لمسار الحركة الأدبية ومفكراً عروبياً اجتهد في تفكيك الأوضاع العربية وقدم دراسات وأبحاثاً ذات قيمة"، متابعاً أن "علاقة الصداقة الحميمة بين الراحل وبيني على مدى أكثر من نصف قرن عزّزت مسيرتي الشعرية منذ البدايات الأولى بالعديد من التوجيهات والتحليلات النقدية. إن فقد هذه القامة الأدبية والفكرية خسران لا يعوض، رحمه الله".

إلى ذلك، قال د.فهد حسين: "برحيل المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري فقد العالم العربي أحد المفكرين العرب ممن كرس جهده المعرفي والثقافي بعد التحصيل الأكاديمي في خدمة الأدب أولاً ثم الفكر العربي قديمه وحديثه، وقد اهتم بقراءة التاريخ العربي والإسلامي كما عني بقراءة الواقع المعيش، فقد ظل بجهوده الثقافية والفكرية التي كان ينشرها في كتبه أو في الصحافة المحلية والعربية، وكانت ولاتزال محل تقدير من قِبل القرّاء عامة، والمختصين بشكل خاص".

وتابع حسين:" لقد أسهم الأنصاري منذ بداية مشواره الثقافي في حركة التعليم من جهة، وفي تأسيس أول مؤسسة أدبية ليكون أول رئيس لها، وهي أسرة الأدباء والكتّاب في سبتمبر 1969، رغبة منه ومن كان معه في احتضان الكتّاب والمعنيين بالكلمة الإبداعية ليكون لهم صوت إبداعي في البحرين والعلم العربي، وقد تحقق ذلك بشهادة الجميع، لكن طموحه لم يكن عند هذا فقط، بل رأى الأنصاري أن لديه رؤية ثقافية أخرى غير الأدبية، وترجمها بالعمل في عالم الفكر والثقافة والتراث الفكري، وها هو أخذ يعمل حتى بات علماً من الأعلام الثقافية العربية المشهود لهم بالمكانة الفكرية".

وأضاف: "رحل المفكر الأنصاري جسداً عن دنيانا، ولكنه سيبقى روحاً وفكراً مع إخوانه المفكرين الذين رحلوا، فهؤلاء تركوا لنا ثروة فكرية وثقافية علينا أن نتغذى عليها، وكم كنت أقول لا ينبغي جمع تراث الأنصاري فقط، أو كتابة سيرته بالشكل التقليدي، بل على الذين يعنيهم تراثه الفكري أن يقدموا الدراسات والبحوث، وأن نفكر كمعنيين بالشأن الثقافي دراسة إمكانية إنشاء جائزة عربية تحمل اسمه وفكره وعطاءه، رحم الله مفكرنا الذي سطر بروحه وفكره عالماً من العطاء خدمة لثقافة البحرين والعالمين العربي والإسلامي.. رحمك الله وجعلك في الفردوس الأعلى مع التبيين والصديقين".

أما الكاتب كمال الذيب، فقال: "رحل محمد جابر الأنصاري الإنسان رحمه الله، ولكن الأنصاري المفكر سوف يظل حياً، بمشروعه الفكري الذي أفنى جل حياته الأكاديمية والفكرية في بنائه. مازلت أذكر في لحظة وداعه -بكثير من الاعتزاز- لقاءاتي به وحواراتي معه خلال حضوره المشرق في جامعة الخليج العربي، أستاذاً وعالماً ومفكراً وإنساناً".

وتابع: "في لحظة وداعه، أتوقف عند أمرين، الأول: أن الأنصاري كأكاديمي عمل خلال مسيرته الطويلة على بناء التوازن بين المعرفة العلمية والإبداع الفكري والأدبي والفني، حتى تكون الجامعات منارة للفكر وللإبداع، مثلما هي منارة للمعرفة العلمية، بحيث لا يتم تدريس المواد العلمية بمعزل عن الفكر وفلسفة العلوم والقيم والمساءلة والاطلاع على مختلف المذاهب والآراء. ولذلك كان جوهر فكره يقوم على تجديد النهضة والفكر، ورفض ثقافة الصوت الواحد التي تؤدي إلى خنق حرية الفكر، ورفض الاختزال والتبسيط والنظرة الأحادية، ورفض ما يسميه بثقافة التبسيط والسطحية، ومنها ثقافة النصوص السطحية التي تطرح بكثافة هذه الأيام على أنها إبداع، في حين أنها تهدد بإفساد اللغة والثقافة والذوق معاً".

وأضاف: "الأمر الثاني: أن الأنصاري –إضافة لكونه قامة أكاديمية وفكرية كبيرة- كان له دور تنويري فاعل وحيّ، في جميع مراحل تطور المجتمع البحريني. فلم ينعزل قط، بل كان حاضراً في جميع اللحظات التاريخية المهمة في حياة البحرين والعرب. ولم يلذ بالصمت عندما يتعلق الأمر بقضايا وطنية أو قومية وإنسانية. بل كان حضوره قوياً شجاعاً ونزيهاً. حيث لا مجال عنده لافتعال تسويات لغوية أو خزعبلات فلسفية، لتبرير الهروب من مواجهة اللحظات التاريخية".

وتابع الذيب: "كان داعماً للنهضة العربية ولتطلعات الشعوب في الوحدة والحرية والديمقراطية والتنوير. وانخرط في المشروع الإصلاحي لجلالة الملك صوتاً واضحاً، مع الشراكة والوحدة الوطنية والحرية، من أجل أن تكون البحرين العربية واحة للحرية والديمقراطية والتنمية والسلام والتعايش، رائدة كما كانت دائماً. فجسّد بذلك علاقة قوية بين الموقع الفكري والأكاديمي وبين الموقف والاشتغال بالحالة السياسية، من خلال علاقته بالمشروع الإصلاحي لجلالة المعظم حفظه الله. فقد كان له شرف خدمة هذا المشروع الحضاري، وواكبه، وعايشه فكراً وحقيقة وطنية على الأرض، كأكاديمي وككاتب ومفكر مستقل. وهذا دليل على نوعية العلاقة الصحية بين القيادة السياسية، والمثقف في ظل الملكية الدستورية المستنيرة، انطلاقاً من قناعة بالحاجة إلى تجسير الفجوة بين الثقافي والسياسي إذا ما أردنا تجديداً لحياتنا الفكرية ولحياتنا السياسية معاً. فاحتمالات الحوار والتعاون بين السلطة المستنيرة والمُصلحة، وبين المثقف الواعي المبدع ضرورة تحتاجها مجتمعاتنا، رحم الله الأنصاري رحمة واسعة... فالحديث عنه وعن مشروعه الفكري يطول ويطول".

من جانبه، أوضح الناقد الأدبي زكريا رضي، أنه برحيل الأنصاري، فقد طويت صفحة من صفحات التاريخ الفكري الحديث لمملكة البحرين، إذ كان يمثل بحق علامة بحرينية مسجلة لمشروع نهضوي وفكري قاده الأنصاري بكل مثابرة وإصرار.

وقال "ليس من قبيل المبالغة إن وضعنا الأنصاري كصنو فكري وأنموذج نقدي في المشرق العربي في مقابل محمد الجابري في المغرب العربي وحسن حنفي ونصر حامد أبو زيد والطيب تيزيني في دول المتوسط مع اختلاف البيئات الفكرية والروافد الأيديولوجية التي غذت كل صاحب مشروع نقدي و التي انحدر كل مفكر منها". وذكر، أنه طوال 3 عقود، لم تتوفّر الفرصة التاريخية السانحة لإعادة النظر في مجمل قضايا الفكر العربي، وأزماته الداخلية وتحولات بنيته مثلما توفرت للأنصاري إلا أنه يكفي أنه ترك مشروعه الفكري النقدي القائم على المسائلة، واستنطاق التراث العربي، تاركا للأجيال الجديدة من الباحثين الخليجيين والعرب كافة في أن يكملوا ما بدأه.

ولفت رضي، إلى أنه إذا أردنا أن نُحقّب المراحل الفكرية التي مربها الأنصاري فإننا بالتأكيد سنقف عند كتاب الفكر العربي وصراع الأضداد، ذلك الكتاب الضخم الذي ناهز 600 صفحة من القطع المتوسط، والتي بنى فيها الأنصاري أطروحته الفكرية في هذا الكتاب على الثنائيات المتضادة في سيرورة تاريخية من التوفيق والتلفيق معتبرا أن لا وجود لفيصل قاطع في الحضارة العربية الإسلامية بين التوفيق والتلفيق فما يبدو توفيقا في عصرما، قد يغدو تلفيقا في عصر آخر.

وأوضح، أن جدلية الدين والعقل، هذه الثنائية التي شكلت واحدة من أكثر الثنائيات صراعا ونزاعا داخل بنية التفكير العربي، والمذهبية السياسية والدينية، تعد من أبرز الثنائيات بحثا وتنقيبا، ومنها انطلق الأنصاري للتأسيس إلى قاعدته النظرية المعروفة بالقاعدة الأنصارية اعتمادا على هذه الثنائيات والتي محورها في 4 محاور يعاني منها الفكر العربي وهي: العقل والإيمان، والدين والدولة، والنظرة إلى الغرب، والقومية واللاقومية.

واستند على مقولة لابن خلدون في العرب يقول فيها "إنهم -أي العرب – لا يخضعون ولا يقادون إلا لرسالة دينية أو نحوها"، سيقود هذا الاستنتاج الأنصاري وهو في غمار بحثه في التوفيقية والتلفيقية إلى أن عملية الإصلاح الديني والاجتماعي لم تخرج عن الدين بل كانت دائما ما تتوسل الدين لأجل التغيير.

وبيّن، أن الميزة الذهبية الأنصارية بامتياز هي في تلك القدرة على الالتحام بالتراث العربي الإسلامي لا الانفكاك عنه ومحاولة استنطاق مفرداته، والخروج برؤية مغايرة تسائل الواقع العربي المأزوم.

وقال رضي "برحيل الأنصاري ثلم المسار الفكري النقدي البحريني والعربي ثلمة لا يسدها شيء إلا بمشروع مكمل وناهض على يد من يجدد لهذه الأمة واقعهاالفكري على رأس المائة".

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق