العبودية الطوعية

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

هذا مقال كتبه شاعر فرنسى منذ نحو خمسة قرون عندما كان شابًا فى الثامنة عشرة من عمره، وهو «إتيان دو لابوسى» الذى توفى ولم يبلغ سوى اثنين وثلاثين عامًا وعدة أشهر «١٥٣٠- ١٥٦٣»، ولم ينشر المقال إلا بعد وفاته بفضل البروتستانت الذين وجدوا فى المقال ضالتهم خلال معاركهم من أجل إسقاط النظام الملكى.

وليس معروفًا عن «لابوسى» غير القليل. ولد فى مدينة سارلات فى ١٥٣٠ لعائلة من القضاة والأرستقراطيين، ثم أصبح مستشارًا للبرلمان بقرار من الملك هنرى الثانى، وترك العديد من القصائد وذلك المقال الذى ما زال بعد خمسة قرون علامة على شوق الإنسان اللا نهائى للحرية. 

عنوان المقال وموضوعه هو: «العبودية الطوعية» ترجمة صالح الأسمر، وفى الكتاب يصب الشاعر الشاب غضبه على الأنظمة الملكية والحكم المطلق فى بلاده وغيرها، إلا أن صيحته تتجاوز ذلك إلى قضية الحرية بشكل عام، فى كل زمان ومكان، وفى الوقت ذاته كان المقال نبوءة مبكرة بسقوط الأنظمة الملكية التى اختفت بعد ذلك من فرنسا بالإعلان عن الجمهورية فى ١٧٩٢، كما انهارت فى هولندا، وفى إسبانيا ١٨٧٣، وغيرها.

ويتناول «لابوسى» بشتى الأمثلة التاريخية السر فى خضوع الشعوب بإرادتها لحاكم فرد أيًا كانت طريقة وصوله للحكم سواء أكان ذلك بالانتخاب أو بالقوة أو بالوراثة، ويسمى ذلك «العبودية الطوعية»، مؤكدًا أن ما يميز الملوك الطغاة ليس حسن إدارتهم لشئون البلاد بل اعتياد الشعب على تحمل الاستعباد، ويقول فى ذلك: «كل ما أريد أن أفهمه هو كيف أمكن لكثير من الناس والبلدات والأمم والمدن أن تتحمل أحيانًا وطأة طاغية لا يملك من القوة إلا ما أعطوه هم له». ويضيف: «إن نقطة الضعف فينا نحن البشر، فى أنه يتوجب علينا فى معظم الأحوال أن نخضع للقوة، وأننا لا نستطيع أن نكون الأقوياء». 

ويشير «لابوسى» إلى عوامل أخرى تغذى العبودية الطوعية منها ذلك الخليط من الأفكار الدينية والخرافات الذى يستخدمه الحكام، ويضرب مثلًا على ذلك قائلًا إن: «ملوك آشور، ومن بعدهم ملوك ميديا، لم يكونوا يظهرون على الملأ إلا بعد مرور وقت لكى يبعثوا الشك فى أذهان العوام ما إن كان الملوك بشرًا أم شيئًا آخر فوق البشر.. ولم يكن ملوك مصر يظهرون إلا وقد حملوا على رءوسهم هرًا تارة وغصنًا تارة أخرى أو نارًا، ليبعثوا بذلك الاحترام والمهابة فى نفوس رعاياهم.. أما ملوكنا فى فرنسا فقد نشروا شعارات لا أدرى ماهيتها مثل الضفادع والزنابق والقارورة المقدسة والشعلة الذهبية». 

وينوه بعامل آخر فى تغذية تلك العبودية ألا وهو الفن والثقافة فيقول: «إن المسارح والألعاب والمساخر والمشاهد، والبهائم الغريبة، والأوسمة، واللوحات، وأشياء أخرى من هذا القبيل كانت أشكالًا من الطعوم لإبقاء الشعوب القديمة فى فخ العبودية، وكان الطغاة القدامى يمتلكون هذه الوسائل لتنويم رعاياهم تحت النير»، ويشدد الشاعر الفرنسى على أن «سر كل طاغية يكمن فى إشراك فئة قليلة من المتملقين فى الحكم بفتات من الامتيازات تلقى إليهم، فتستبق تلك الزمرة رغبات الطاغية ويحدسون ما يريد قبل أن يفصح هو عنه». 

ويتوقف لابوسى طويلًا عند فكرة: «إن الطغاة لا يقترفون شرًا إلا مهدوا له ببعض العبارات الجميلة عن المصلحة العامة ورفاهية الجماعة».

وقد مهد مقال الشاعر الفرنسى لتغيير نظام الملكية فى أوروبا كلها إلى نظم جمهورية حديثة، ومع ذلك فإن الصيحة التى أطلقها المقال ظلت تمجيدًا مبكرًا للحرية الإنسانية وصانت اسم الشاب الفرنسى الذى لم يكن يتجاوز الثامنة عشرة حين غمرت قلبه الأحلام بمستقبل أجمل.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق