استكمالًا لحديث الأمس حول أهمية التفكير النقدى وإعمال العقل لمواجهة هيمنة السلطة الدينية، لمنع التطرف الدينى الذى يؤدى بالتبعية إلى إرهاب وكوارث تضر بالمجتمع، أستكمل الحديث بشأن تأخر تجديد الخطاب الدينى لأسباب كثيرة. أولها هو غياب التفكير النقدى، وثانيها هيمنة السلطة الدينية على المجتمع.
ومن هذا المنطلق أبدأ بتحديد الأسباب الرئيسية التى لا بد من علاجها من أجل تطوير حقيقى للخطاب الدينى.. يشكل غياب التفكير النقدى تحديًا كبيرًا يواجه المجتمع، حيث يتراجع دور العقل والمنطق أمام تيار جارف من الأفكار التراثية والمعلومات المضللة. وتتعدد الأسباب التى تسهم فى هذا الغياب، بدءًا من العوامل التربوية، وصولًا إلى التطور التكنولوجى. وتلعب البيئة التعليمية دورًا حاسمًا فى تشكيل عقول النشء. فالنظام التعليمى التقليدى الذى يركز على الحفظ والتلقين بدلًا من التحليل والتقييم يحد من قدرة الطلاب على التفكير بشكل مستقل وناقد. كما أن الاعتماد الكبير على المعلومات الجاهزة المتاحة عبر الإنترنت يقلل من الحاجة إلى البحث والتدقيق، ما يؤدى إلى تدهور المهارات النقدية.
كما تلعب وسائل الإعلام، على رأسها السوشيال ميديا، دورًا مؤثرًا فى تشكيل الرأى العام. فالتسابق على جذب المشاهدين والمتابعين يدفع وسائل الإعلام إلى تبسيط القضايا وتقديمها بشكل عاطفى وجذاب، بدلًا من التحليل العميق والمنهجى الذى يعتمد على ضبط المصطلحات. كما أن انتشار الأخبار الكاذبة والشائعات على وسائل التواصل الاجتماعى يزيد من صعوبة التمييز بين الحقيقة والزيف.
ويؤثر التطور التكنولوجى بشكل كبير على أنماط التفكير. فالتعرض المستمر للإعلانات والمحتوى التسويقى يجعل المواطن أكثر عرضة للتأثير والتحيز. كما أن الأجهزة الذكية تسهل علينا الوصول إلى المعلومات، ولكنها فى الوقت نفسه تجعلنا أكثر اعتمادًا عليها، وتقلل من قدرتنا على التركيز والتفكير العميق. وكذلك تلعب العوامل الثقافية والاجتماعية دورًا مهمًا فى تشكيل القيم والمعتقدات، لدرجة أن نجد فى السوشيال ميديا حاليًا تعبيرات تراثية كثيرة، ولا يعرف مرددوها معناها، مثل الدعوة لمريض بالشفاء «اللهم اشفه شفاء لا يغادر سقمًا»، التى بدورها تؤثر على القدرة على التفكير النقدى. فالتعصب للأفكار المسبقة والخوف من التغيير يحدان من قدرتنا على النظر إلى الأمور من زوايا مختلفة وتقييمها بشكل موضوعى.
كما يلعب التوتر والضغوط اليومية دورًا كبيرًا فى تقليل القدرة على التفكير بوضوح وتركيز. فالحاجة إلى اتخاذ القرارات بسرعة والتعامل مع كم هائل من المعلومات يجعلانا أكثر عرضة للأخطاء والتحيز. إن غياب التفكير النقدى له عواقب وخيمة على الفرد والمجتمع. فهو يؤدى إلى انتشار الجهل والتطرف، ويضعف قدرة المجتمع على مواجهة التحديات المعقدة. كما أنه يسهل استغلال الأفراد من قبل الجماعات المتطرفة والشعبويين.
ولمواجهة هذا التحدى، يجب علينا اتخاذ مجموعة من الإجراءات على المستويات الفردية والمجتمعية، حيث يجب السعى إلى تطوير المهارات النقدية.
وقد ارتبط التاريخ الإسلامى بتشابك كبير بين الدين والسلطة. وقد شكل هذا الترابط، فى كثير من الأحيان، تحديًا كبيرًا أمام تطور الفكر الحر والتعبير عن الرأى. فبدلًا من أن يكون الدين مصدرًا للإلهام والمعرفة، أصبح أداة فى يد رجال الدين لتبرير سلطتهم وقمع المعارضين. إذن متى يتحرر العقل من هذا الإرث الثقافى والتاريخى؟ الإجابة ليست بسيطة، فهى تتطلب تحولات عميقة على المستويات الفردية والمجتمعية والدينية.
ويجب أن ندرك أن تحرر العقل ليس عملية آنية، بل هو رحلة طويلة تتطلب جهدًا مستمرًا. فالعقل البشرى، بفعل التنشئة الاجتماعية والثقافية، يتأثر بعمق بالمعتقدات السائدة، لذا فإن تغيير هذه المعتقدات يتطلب تحديًا للذات وتقبلًا للفكر النقدى.
ويجب أن نؤمن بأن الدين لا يتعارض مع العقل، بل هو مكمل له. فالدين الحقيقى يدعو إلى التفكر والتأمل، وليس إلى التبعية العمياء. وعندما نفصل الدين عن السياسة، ونجعله علاقة بين المرء وربه، فإننا نسمح للعقل بأن يتحرر من القيود المفروضة عليه.
كما يجب أن نعمل على بناء مجتمعات مدنية قوية، تحترم حقوق الإنسان والحريات العامة. فالمجتمع المدنى هو الحاضنة الطبيعية للفكر الحر والتعبير عن الرأى. وعندما يكون المواطنون أحرارًا فى التفكير والتعبير فإنهم يكونون قادرين على فعل المستحيل.
وهنا يجب أن نستثمر فى التعليم، ونعمل على تطوير المناهج التعليمية التى تشجع على التفكير النقدى والإبداع. فالتعليم هو السلاح الأقوى فى مكافحة الجهل والتخلف. وعندما يكون المواطنون مثقفين، فإنهم يكونون أقل عرضة للتلاعب والخداع. وهنا يجب أن نتعلم من تجارب الشعوب الأخرى، وأن نستفيد من خبراتهم فى مجال التنمية البشرية وبناء المجتمعات الديمقراطية. فالتاريخ ملىء بالأمثلة على الشعوب التى تمكنت من التحرر من القيود الدينية والسياسية، وبناء مجتمعات مزدهرة. إن تحرر العقل من هيمنة السلطة الدينية هو هدف يتطلب تضافر جهود الجميع. فمن خلال التعليم والتوعية، وبناء مجتمعات مدنية قوية، يمكننا أن نصل إلى مستقبل أفضل، وهنا يتحرر الخطاب الدينى الكسيح من كل داء.
وللحديث بقية.
0 تعليق