امتلأت الغرفة بالدماء. لا، لم أكن قد ملأتُ الجدران بكلمات أغانى «البيتلز» بخطوط ملطخة بدماء ضحيتى على طريقة عائلة «مانسون»، ولكن هناك بقعة ضخمة على السجادة، لم تكن على هيئة قلب، بل من النوع الذى سيصفه أىُّ شخصٍ يخضع لاختبار بقع الحبر «رورشاخ» بأنه فراشة، لأنه يفتقر إلى شجاعة القول «إنها تُشبِه الفَرْجَ».
بدأتُ أفحصُ بقعة الدم من كثبٍ، ولكن سرعان ما جذب جوربى انتباهى، كان لزجًا لدرجة أنه التصق بباطن قدمىَّ، وعندما تقدمتُ نحو البقعة، شعرتُ كأننى أسيرُ على عشبٍ ندىٍّ من المطر، تتبَّعتنى سلسلةٌ من البصمات الدموية من الجثة إلى السجادة، انتابتنى القُشعريرة، فقد بدت البقعةُ- بالفعل- كبطاقة «رورشاخ» الأولى.
ماذا كان «فرويد» سيقول عن هذا؟ هل تستطيعُ سجادةٌ ملطخةٌ بدماء شخص قتلته للتو أن تَصِفَ العقل الباطن حقًا؟ أم علينا أن نُحاوِلَ تفسيرها كعلامة؟ هل تعنى الفراشة أننى أبلغ عنان السماء؟ هل القتل يمنحكَ أجنحة؟ لو كنتُ أنا من تستلقى على أريكة مدمن الكوكايين، ذلك المتحيز ضد النساء فى «فيينا» فى القرن التاسع عشر، لاتَّخذ التحليل النفسى مسارًا مختلفًا تمامًا.
لا تأخذ عنى انطباعًا خاطئًا الآن، فأنا فى الحقيقة دقيقة جدًا، وعادةً لا أتسبَّبُ بالفوضى، أُعذِّبُهم ثم أقتُلهم، دون أن أترك أىَّ أثرٍ، إنها لى مسألة شرفٍ؛ فلا يجب أن تُنفِقَ عائلاتُ الضحايا الكثير من المال على تنظيف مسرح الجريمة المكلف بسببى، لكننى لم أفهم لماذا لم أكن دقيقة هذه المرة؟.
كنتُ قد خطَّطتُ للجريمة بعناية؛ كل التفاصيل مضبوطة تمامًا، كما قضيتُ أيامًا أُفكِّر فى سلاح القتل، أرغب دائمًا فى أن يعطى السلاح دليلًا على سبب اختيارى هذا الشخصَ بعينه ليكون ضحيتى، وفى هذه الحادثة، اخترتُ سكين التقطيع.
هل حقًا تريدنى أن أشرح لكَ ما قصدتُه؟ السكين هو رمزٌ ذكورى كلاسيكى، فما أفضل سلاحٍ ليخترق قلب رجلٍ لعوبٍ لا يمكن إصلاحه، ظلَّ يلاحق النساء لعقودٍ من الزمن؟
وكما ترى، كان ينبغى أن تسير الأمور فى ترتيبٍ مثالى دون أدنى تقصير، ولكن فجأةً، عمَّت الفوضى المكان، تصرفتُ كأسوأ أنواع الهواة. وعلىَّ أن أقضى فترةً أطول بكثير مما كنتُ قد خططتُ له فى الموقع. كيف سأجد الوقت الكافى للتخلُّص من الجثة؟
فكرتُ فى مكان دفن الضحية لفترة طويلة، وتذكرتُ أننى اتخذتُ قطار الركاب ذات مرة من «هلسنكى» إلى «كيرافا»، وبينما كنتُ أُحدِّق عبر النافذة المُغبرة إلى المناظر الحزينة التى تمرُّ، لاحظتُ وجود بِركةٍ صغيرة خلف المحطة فى «سافيو».
وبعد بحثٍ سريعٍ عبر الإنترنت، علمتُ أن البِركة تقع على أرض مصنع مطاطٍ قديم، أُغلِقَ فى عام ١٩٨٥، وأصبحت الآن مَكسوَّة بالأعشاب، فلا يُغامِر عاقلٌ بالسباحة فيها، فإذا رميتُ الجثةَ هناك، فسيوفِّر ذلك عناء حَفْرِ قبرٍ للضحية.
سأنقُل جثة ضحيتى إلى البِركة فى صندوق سيارته، ثم أفْرِدُ قماشًا مشمعًا عند الشاطئ كنتُ قد لففتُه داخل حقيبة رياضية، وأضع الجثة على القماش المشمع، وأقطعها باستخدام منشار، ثم أُغرق القماش المشمع والمنشار وأجزاء الجثة المقطوعة فى البِركة، وسأترك السيارة خارج محطة «سافيو»، وأعود على متن القطار إلى «هلسنكى».
كان التخلُّص من الجثة دائمًا الجزء الأصعب لى فى ارتكاب جريمة قتل، ولحُسن الحظ، يعطينى الأدرينالين قوى خارقةً تُمكننى من سحب رجال أضخم منى إلى صندوق السيارة، وأَخْذِهم إلى موتهم المبكر.
والآن، كان علىَّ محاربة الوقت، إذا كنتُ أعتزم تنفيذ خطتى قبل أن يلاحظ أىُّ شخصٍ اختفاء الضحية. ولأول مرةٍ فى إحدى مغامراتى القاتلة، شعرتُ بعدم الثقة بنفسى، وبدأ قلبى ينبض بسرعة، كانت نوبة الهلع هى كلُّ ما ينقصُنى، كان علىَّ أن أُهدِّئ نفسى، ولكن الخوف كان قد استولى بالفعل على ذهنى، هذا النوع من الإهمال يُمكن أن يؤدى إلى شىء واحد فقط: القبض علىَّ.
كان منزل ضحيتى كما توقعتُ، قد كان منزلًا من النوع الذى تراهُ فى برامج تليفزيون الواقع، وحتى لو شاهدتَ البرنامج بأكمله، فلن تكون قادرًا على وصف المنزل، ستكون لديكَ ذاكرةٌ ضبابية بسبب كمية الأسطح البيضاء التى يَجزِمُ مقدمو البرامج أنها فى الواقع عشرة ألوان مختلفة؛ سجادة بيضاء، وأريكة بيضاء، وستائر بيضاء، وسرير أبيض، وطاولة جانبية للسرير بيضاء ثم، كتحدٍ صغير جرىء، خزانة كتب تميل إلى الرمادى، ولكنها لا تزال بيضاء، هل أنا الوحيدة التى تفكر فى الزنزانات المُبطَّنة فى المستشفى النفسى عندما أرى اللون الأبيض؟ ومع ذلك، فى الوقت الحالى، كانت غرفة نوم ضحيتى الرئيسة تُشبِه قاعةَ عمليات، نظرتُ إلى الفوضى التى خلَّفتُها وتفوَّهتُ باللعنة فى سرى.
وفجأة، لفتت انتباهى صورةٌ معلقة على الحائط، مكتوب عليها: «عِشْ، اِعْشَقْ، اِضْحَكْ». إن الأشخاص الوحيدين الذين يلجأون إلى مثل هذه الحكمة المبتذلة مثل الحِكم التى نجدها بداخل بسكويت الحظ، هم أولئك الذين لا يستطيعون التعبير عن مشاعرهم تعبيرًا صحيحًا، إلا إذا وصفها شخصٌ آخر بكلماتٍ نيابة عنهم، كنتُ أعلم تمامًا كيفية التعامل مع مشاعرى؛ عن طريق القتل.
شدَّتنى الصورةُ كأنما هى ورقة تذكير لاصِقة من تلك التى تلصقها العائلات على الأغراض ليُذكِّروا بها أقاربهم المصابين بالخرف، واقتنعتُ أن ضحيتى لم يَخْتَرْ هذه الصورة بنفسه، بل كانت هدية من عشيقةٍ تصغُرُه بعشرات السنين.
حدقتُ إلى الصورة، ثم فزعتُ، وتوقف قلبى لحظةً.
كانت هناك نقطةٌ حمراء صغيرة داخل حرف «ح» فى كلمة «حب».
أسرعتُ نحو الحائط، نعم، لقد كانت دماءً، كيف تناثرت حتى هذه المسافة؟
كان كلُّ شىءٍ يجرى بسلاسةٍ فى البداية، والآن هذا؛ إنها لفوضى عارمة!
كان الدخول إلى الشقة فى غاية السهولة، كنتُ أراقِبُ ضحيتى طويلًا بما يكفى لأُدرِكَ غباءه الفادح، فاكتشفتُ أنه يحتفظ بمفتاحٍ احتياطى فى حديقة المبنى، فى كل مرةٍ يغادر فيها المنزل، يُخفيه بين نباتات عباد الشمس فى الصَّحن المُخصَّص لأكل الطيور، كانت سذاجته تُثير الشفقة تقريبًا.
مقطع من رواية: المعالجة النفسية للقاتلة المتسلسلة
0 تعليق