حنان الخلفان
يغلق معرض الخريف أبوابه اليوم، ليضع حدًا لموسم استهلاكي جديد، حيث شهدت أروقته ازدحامًا كبيرًا من النساء اللواتي تدفقن على مدى الأيام الماضية، محملات بأكياس امتلأت بمشتريات لم تكن جميعها ضرورية. المشهد ذاته يتكرر كل عام: عروض مغرية، وأساليب تسويقية متقنة، وبائعون محترفون في إقناع الزبائن بأن كل منتج هو "فرصة لا تُعوّض". ومع ذلك، لا يكاد الحدث ينتهي حتى تبدأ مرحلة أخرى أكثر أهمية لكنها لا تحظى بنفس الزخم: مرحلة الحسابات، ومراجعة الفواتير، وإدراك حجم الإنفاق الذي تم خلال أيام معدودة فقط.
التسوق في هذه المناسبات لم يعد مجرد شراء احتياجات، بل أصبح حالة عاطفية تخضع لمغريات العروض أكثر من ضرورات الواقع. فالشعور بالانتصار في اقتناص أكبر عدد من المنتجات، والمقارنات غير المباشرة بين من اشترت أكثر، يخلقان اندفاعًا شرائيًا يتجاوز حدود المنطق. البائعون يعرفون تمامًا كيف يلعبون على هذا الوتر، فيستغلون كل الأساليب النفسية الممكنة: "العرض ساري اليوم فقط"، "هذه القطعة الأخيرة"، و"لن تجدي هذا السعر مجددًا". وبهذه العبارات المدروسة، تجد المرأة نفسها تدفع ثمن منتجات لم تخطط أصلًا لشرائها، مدفوعة بشعور زائف بأنها حققت صفقة رابحة.
لكن مع إغلاق المعرض، تبدأ مرحلة الإدراك المتأخر. الأكياس المكدسة في زوايا المنازل تتحول من مصدر سعادة مؤقتة إلى موضع تساؤل: لماذا اشتُريت كل هذه الأشياء؟ كم منها سيُستخدم فعلًا، وكم منها سينتهي به المطاف في أدراج مغلقة حتى يتم التخلص منه لاحقًا؟ بعض النساء يجدن أنفسهن أمام أزمة مالية غير متوقعة بسبب الإنفاق العشوائي، مما يدفعهن إلى البحث عن حلول تعويضية، مثل تقليص المصاريف الضرورية خلال الأشهر القادمة. ولكن المشكلة الأكبر أن بعض النساء لا يعتمدن على مدخولهن الشهري فقط، بل يلجأن إلى الاشتراك في الجمعيات الشهرية لسنة أو سنتين فقط ليحصلن على مبلغ مجمع يتم إنفاقه بالكامل خلال أيام المعرض، وكأن عامًا كاملًا من التوفير يُهدر في لحظة اندفاع استهلاكي.
لكن هل يقع اللوم بالكامل على المستهلكات؟ الواقع أن الشركات والتجار يديرون هذه المعارض بطريقة تجعل مقاومة الشراء شبه مستحيلة، فالبيئة التجارية مصممة لتعزيز القرارات العاطفية: أضواء ساطعة، عروض جذابة، موسيقى مريحة، وموظفو مبيعات يتقنون فن الإقناع. كل شيء في هذه المعارض مدروس بعناية لخلق مناخ يجعل التسوق تجربة نفسية واجتماعية أكثر من كونه مجرد تبادل للمال مقابل منتج.
المشكلة أن هذا الإنفاق العشوائي يحدث في توقيت غير مثالي على الإطلاق. فمع انتهاء المعرض، يبدأ العد التنازلي لبداية الفصل الدراسي الجديد، وهو ما يعني مصاريف إضافية تتعلق بالرسوم الدراسية، والكتب، والملابس المدرسية، واحتياجات الأبناء التعليمية. وبعد فترة وجيزة، تبدأ تحضيرات شهر رمضان، الذي يحمل بدوره قائمة طويلة من المتطلبات الغذائية والمنزلية. وسط كل هذه الالتزامات، تجد كثير من النساء أنفسهن في موقف صعب، حيث يواجهن فجوة مالية بسبب الإسراف خلال المعرض، مما يجبرهن على البحث عن حلول تعويضية قد تشمل الاستدانة أو تقليل الإنفاق الضروري في الأشهر المقبلة.
السؤال الذي يجب أن يُطرح الآن: هل كانت كل هذه المشتريات ضرورية؟ أم أنها كانت مجرد استجابة لحظة عاطفية لن تستمر سوى أيام؟ الواقع أن معرض الخريف ليس مجرد حدث تجاري، بل هو اختبار سنوي يكشف مدى قدرة الأفراد على إدارة مواردهم المالية بذكاء، أو انجرافهم وراء دوامة الاستهلاك غير المدروس. المشكلة ليست في التسوق بحد ذاته، بل في الطريقة التي يُدار بها، حيث تتحول الرغبات العابرة إلى أولويات، وتُستنزف الميزانيات على أمور لا تُضيف قيمة حقيقية للحياة.
الحل لا يكمن في الامتناع عن التسوق، بل في تطوير وعي استهلاكي أكثر نضجًا، بحيث يصبح الإنفاق متوازنًا ومبنيًا على الحاجة الفعلية لا التأثير اللحظي للإعلانات والتخفيضات. يجب على الأسر أن تضع خطة مالية واضحة قبل دخول المعارض، مع تحديد سقف للإنفاق وعدم تجاوزه، إضافة إلى التفكير طويل الأجل بدلًا من الاستجابة السريعة لمغريات العروض. فالميزانية الأسرية ليست لعبة مؤقتة، بل هي مسؤولية تمتد آثارها لشهور قادمة، وقد يكون قرار شرائي واحد خاطئ كفيلًا بخلق أزمة مالية غير متوقعة.
ومع انتهاء المعرض، تتبقى الدروس ذاتها، لكنها غالبًا تُنسى سريعًا، ليبدأ العد التنازلي للمعرض القادم، حيث تعود الدورة من جديد: إغراءات، مشتريات، اندفاع، ثم إدراك متأخر لا يغير شيئًا من الواقع.
0 تعليق