غزة - بهاء طباسي: فـي قطاع غزة، حيث تتشابك الحروب مع الحصار المستمر، تتجلى معاني الصمود بأبهى صورها. يعيش السكان فـي ظروف تفرض عليهم تحديات يومية تمس كافة جوانب حياتهم، من نقص الموارد الأساسية إلى تدمير البنية الأساسية.
فـي ظل هذا الواقع، ظهرت آليات مبتكرة لتحسين ظروف المعيشة وتعزيز الصمود وسط الحرب الإسرائيلية على القطاع والمستمرة منذ أكثر من 14 شهرًا.
هذه الابتكارات لم تكن مجرد حلول تقنية، بل جاءت كنتاجٍ لروح التحدي والتكاتف المجتمعي، مما يجعلها قصص نجاح تتجاوز حدود الجغرافـيا والسياسة.
بستان فـي الأفق
أعلى منزل بسيط وسط مدينة غزة، وقفت أم عيسى لبد وسط حديقة صغيرة من الخضراوات المزروعة فـي صناديق بلاستيكية مرتفعة. بالرغم من ضيق المساحة ونقص المياه، تمكنت من تحويل سطح منزلها إلى مصدر غذاء أساسي لعائلتها.
باستخدام تقنية الزراعة المائية التي تعلمتها من مشروع مجتمعي، استطاعت تجاوز التحديات المستمرة التي يفرضها الحصار. قصتها تلخص كيف يمكن للابتكار أن يصبح طوق نجاة فـي ظل ظروفٍ قاسية. تقول أم عيسى لـ«$»: «لم أكن أتخيل أنني سأصبح مزارعة على سطح منزلي، لكن هذه الحديقة أصبحت شريان حياة لعائلتي».
حلول لضيق الموارد
فـي ظل النقص الحاد فـي المياه والأراضي الزراعية، تبنت غزة تقنيات الزراعة المائية والزراعة الرأسية كحلول عملية.
الزراعة المائية تعتمد على تدوير المياه الغنية بالعناصر الغذائية، مما يقلل من استهلاك المياه بنسبة تصل إلى 90% مقارنة بالزراعة التقليدية. الزراعة الرأسية، من جهتها، تستغل المساحات العمودية وتتيح إنتاج كميات كبيرة من المحاصيل فـي مساحات صغيرة.
أسهمت هذه التقنيات فـي تحسين الأمن الغذائي لعشرات العائلات، وفقًا لتقرير صادر عن منظمة الأغذية والزراعة (فاو)، فإن استخدام هذه التقنيات ساعد أكثر من 300 عائلة فـي غزة على تحقيق اكتفاء ذاتي جزئي من الخضراوات.
المهندسة الزراعية نيفـين العطار، التي تعمل مع مشروعات تدعم المزارعين، تؤكد: «نحن نعمل على تدريب السكان على هذه الأساليب، مما يجعلها ليست فقط حلولًا تقنية، بل جزءًا من الثقافة المحلية».
الاكتفاء الذاتي
إلى جانب التقنيات الحديثة، ظهرت مبادرات مجتمعية لتأسيس مزارع صغيرة فـي الأحياء السكنية. إحدى هذه المبادرات، التي أطلقتها جمعية التنمية الزراعية فـي غزة، ركزت على تمكين النساء لإنتاج الخضراوات والفواكه بأنفسهن.
تسهم هذه المشروعات فـي تعزيز الاكتفاء الذاتي وتخفـيف الضغط على السوق المحلية. تقول أم عيسى: «المشروع أعطاني فرصة جديدة للحياة. الآن أستطيع توفـير طعام لعائلتي وحتى بيع بعض المحاصيل للجيران».
وتوضح الناشطة الحقوقية نسرين عوكل، مديرة المشروع: «لقد ركزنا على توفـير الدعم الفني والمالي للنساء، لتمكينهن من تحقيق الاستقلال الاقتصادي والغذائي».
ضوء فـي العتمة
مع انقطاع الكهرباء لساعات طويلة يوميًا، أصبحت الألواح الشمسية وسيلة لا غنى عنها لتوفـير الطاقة. تقدم بعض المنظمات الدولية مثل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) مشروعات لتركيب الألواح الشمسية على أسطح المنازل والمؤسسات.
المهندس علاء الدويك، من شركة الطاقة المتجددة فـي غزة، يشير إلى أن «الطاقة الشمسية أصبحت أداة حيوية لتوفـير الكهرباء للمستشفـيات والمنازل، خاصة فـي حالات الطوارئ». ويضيف «إن المشروع الأخير الذي نفذته شركته وفر الكهرباء لما يزيد على 200 منزل».
وتوضح المهندسة رشا الداية، المتخصصة فـي مشروعات الطاقة المتجددة: «الطاقة الشمسية ليست فقط بديلًا، بل هي خيار استراتيجي لتحسين حياة السكان فـي غزة».
فوفقًا لما ذكره برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، فإن أكثر 500 أسرة داخل قطاع غزة استفادت من المشروع، الذي أسهم فـي توفـير الكهرباء للمدارس والمستشفـيات بشكل مستدام.
دعم المجتمعات
لم يتوقف الابتكار عند المنازل فقط؛ بل توسع ليشمل إنشاء محطات طاقة شمسية صغيرة تخدم المجتمعات المحلية. هذه المحطات تقدم حلولًا دائمة لمشكلات الطاقة المزمنة.
تقرير من البنك الدولي أشار إلى أن استثمارات الطاقة المتجددة يمكن أن تقلل الاعتماد على الوقود المستورد وتسهم فـي تحسين استدامة الموارد.
أكد إسماعيل الثوابتة، مدير عام مكتب الإعلام الحكومي فـي غزة أن الابتكار فـي مشروعات الطاقة المتجددة أصبح أحد الأعمدة الأساسية لمواجهة تحديات الحرب والظروف الاقتصادية الصعبة التي يمر بها القطاع.
وقال الثوابتة: «فـي وقت يواجه فـيه قطاع غزة حربًا مستمرة تدمّر البنية الأساسية وتدفع الاقتصاد المحلي إلى حافة الانهيار، تظل مشروعات الطاقة المتجددة، وعلى رأسها محطات الطاقة الشمسية الصغيرة، واحدة من الحلول الأكثر أهمية. هذه مشروعات لا توفر فقط الطاقة اللازمة للمنازل والمؤسسات، بل تسهم فـي استدامة الموارد وتقليل الاعتماد على الوقود المستورد، الذي أصبح نادرًا ومكلفًا بسبب الحصار المستمر».
وأضاف: «على الرغم من أن الحرب قد تسببت فـي تدمير أجزاء واسعة من البنية الأساسية فـي غزة، إلا أن محطات الطاقة الشمسية الصغيرة تمنح الأمل للكثير من الأسر والعائلات فـي توفـير احتياجاتها الأساسية من الكهرباء. هذه المبادرات تمثل مثالًا حيًا على قدرة شعبنا على الصمود والابتكار فـي مواجهة الأزمات».
واختتم مدير مكتب الإعلام الحكومي فـي غزة أن الحكومة الفلسطينية تعمل بالتعاون مع المؤسسات المحلية والدولية لتعزيز هذه المبادرات، وهو ما يعكس الإرادة الوطنية فـي تجاوز التحديات التي فرضتها الحرب الحالية: «نحن نرى أن الطاقة المتجددة ليست مجرد حل للطاقة، بل هي جزء من استراتيجيتنا للتكيف مع الظروف الحالية وضمان استمرار الحياة بشكل طبيعي رغم حرب الإبادة الجماعية ضد شعبنا». التعليم عن بُعد: بديل حيوي فـي ظل تدمير نحو 75% من المدارس والجامعات فـي قطاع غزة، برز التعليم عن بُعد كبديل حيوي. وفرت منصات مثل «غزة أونلاين» برامج تعليمية تلائم احتياجات الطلبة، باستخدام محتوى مصمم خصيصًا للبيئة المحلية.
توضح ربى العطار، معلمة فـي إحدى هذه المنصات: «التعليم عن بُعد ليس مجرد وسيلة لسد الفجوة فـي المدارس، بل هو أداة لفتح آفاق جديدة أمام الطلبة».
كما أكدت أن التعليم عن بُعد فـي غزة لم يكن مجرد استجابة ظرفـية للوضع الحالي، بل تحول إلى فرصة لتطوير التعليم بشكل مستدام، إذ ساعد على إشراك المجتمع المحلي فـي العملية التعليمية.
وأضافت: «نحن نركز على دعم الطلبة نفسيًا وتعليميًا، فالتعليم عن بُعد لا يقتصر على نقل المعرفة، بل يشمل أيضًا الدعم النفسي والاجتماعي، وهو أمر بالغ الأهمية فـي هذه الفترة التي يمر بها قطاع غزة».
تحقيق النجاح فـي التعليم عن بُعد يعتمد على ملاءمة المحتوى للواقع المحلي. أطلقت جامعات فلسطينية فـي غزة مثل؛ الأقصى والأزهر وفلسطين، مبادرات لدعم الطلبة عبر تقديم مواد تعليمية مجانية وإتاحة جلسات تفاعلية مباشرة. هذه الجهود أسهمت فـي تعزيز قدرة الطلبة على استكمال تعليمهم فـي ظل الأزمات المتكررة.
إعادة التدوير: من تحت الأنقاض إلى البناء
مع تزايد الدمار الناتج عن الحروب، لجأ سكان غزة إلى إعادة تدوير الأنقاض لاستخدامها فـي البناء. تقرير لمنظمة الأمم المتحدة للإغاثة والبناء (UNRWA) أشار إلى أن إعادة تدوير الحطام وفرت مواد بناء لحوالي 30% من المشروعات السكنية الجديدة.
المهندس سامر أبو رحمة، الذي يعمل فـي مشروع لإعادة إعمار المنازل، يوضح أن «استخدام المواد المحلية يعزز الاستقلالية ويقلل من تكلفة البناء».
ومع ذلك، تواجه عملية إعادة الإعمار تحديات كبيرة، إذ قدرت دراسة حديثة لمؤسسة راند البحثية الأمريكية تكلفة إعادة إعمار قطاع غزة بأكثر من 80 مليار دولار، بالإضافة إلى 700 مليون دولار لإزالة 42 مليون طن من الأنقاض الناتجة عن الحروب.
كما أشار خبير الإسكان فـي الأمم المتحدة، بالاكريشنان راجاجوبال، إلى أن إعادة إعمار قطاع غزة قد يستغرق 80 عامًا إذا استمر الاحتلال، نظرًا للدمار الشامل الذي لحق بالقطاع.
إضافة إلى إعادة التدوير، يتم استخدام تقنيات بناء بسيطة تعتمد على المواد المتاحة محليًا مثل الطوب الطيني. هذه التقنيات تسهم فـي توفـير مساكن آمنة وبأقل تكلفة ممكنة، مما يساعد الأسر المتضررة على التعافـي بسرعة، وفقًا للمهندس أبو رحمة.
برامج الدعم النفسي أونلاين: شفاء الروح
الأزمات المستمرة فـي غزة تترك آثارًا نفسية عميقة، خاصة على الأطفال، لذلك تقدم مراكز استشارات مثل مركز غزة للدعم النفسي برامج مخصصة لتوفـير جلسات علاج فردية وجماعية لضحايا الحرب.
تقول الدكتورة ريم أبو شريف، خبيرة الصحة النفسية للأطفال فـي قطاع غزة: «نحن نستخدم تقنيات مثل العلاج بالفن والموسيقى لمساعدة الأطفال على التعبير عن مشاعرهم».
ومع تزايد الحاجة إلى الدعم النفسي، تم تطوير خدمات استشارية عن بُعد، عبر تطبيقات الهاتف المحمول، يمكن للأفراد حجز جلسات مع متخصصين دون الحاجة إلى التنقل. هذه الخدمة أثبتت فعاليتها، خاصة فـي المناطق التي يصعب الوصول إليها.
0 تعليق