أوراق الإمام محمد عبده المجهولة

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

لا يزال اسم الإمام المجدِّد محمد عبده (1849 - 1905) صالحاً لإثارة الدهشة رغم مرور سنوات طويلة على رحيله، فإسهاماته لم تقتصر على مجال واحد. كان إصلاحياً يدعو إلى الأخذ بأسباب التقدم، وثورياً شارك العرابيين ثورتهم في مصر، وكتب بياناتهم، كما جدَّد في الفقه الإسلامي، وفي هذا الصدد يمكن ذكر كتابه المهم "رسالة التوحيد"، كما اشتغل في العمل العام قاضياً ومفتياً للديار، وهو الشيخ الوحيد الذي حاز لقب "الإمام" دون أن يجلس على كرسي شيخ الأزهر، وبالتالي فإن حصره في مجال محدد ظلم كبير له.

ومؤخراً لفت انتباهي عنوان كتاب جديد عنه بعنوان "من أوراق الإمام محمد عبده المجهولة.. مشروع استقلال مصر 1883"، خاصة وأن أحد مؤلفيْه هو الدكتور عماد أبو غازي، المؤرخ الرصين، صاحب المؤلفات المهمة التي أزالت الشوائب عن التاريخ المصري وقدَّمته، بعيداً عن الروايات الرسمية، بأفضل صورة ممكنة، مثل "1919.. حكايات الثورة والثوار"، و"1517.. الاحتلال العثماني لمصر وسقوط دولة المماليك"، و"مصطفى النحاس.. مذكرات النفي"، و"طومان باي السلطان الشهيد". أما المؤلف الثاني فهو الدكتور وليد غالي أستاذ الدراسات العربية والإسلامية في معهد دراسات حضارات المسلمين بجامعة أغا خان بالمملكة المتحدة، فما حكاية الأوراق التي اكتشفاها؟

الخيط كان إعلاناً لموقع مزادات يؤكد أن لديه أوراقاً منسوبة للإمام محمد عبده، ضمن مجموعة يملكها شخص يدعى محمد على أفندي السعودي، وقد تقدم المعهد الذي يعمل به الدكتور وليد (أحد مؤلفي الكتاب) لشرائها وأودعها مكتبته بلندن. ركَّز المؤلفان على تتبع العلاقة التي جمعت محمد عبده بالسعودي صاحب تلك المجموعة، حتى يبررا وجود مخطوطات بخط يد محمد عبده ضمن مقتنيات هذا الرجل، كما ضاهيا الأوراق بخط محمد عبده وتأكدا أنها له تماماً، قبل أن يكتشفا نصاً مكتوباً على أربع صفحات بحبر مغاير، وهي عبارة عن مشروع لائحة تأسيسية يتبنَّاها الحزب الأهلي لإقامة حكومة وطنية في مصر يرجع تاريخها إلى سبتمبر عام 1883، أي بعد سنة من الاحتلال البريطاني لمصر، وقد وجدا هذه الجوهرة مخبَّأة داخل كراسة ترجم فيها محمد عبده كتاب الجمهورية، أي أن محمد عبده حاول إخفاءها عن أعين الرقباء.

وقبل أن يُخضِع أبو غازي وغالي الأوراق للفحص والقراءة المتأنية يرسمان صورة فائقة الجودة والاكتمال للحياة السياسية والنيابية والوطنية في مصر، في سياق يمتد بين سبعينيات القرن التاسع عشر وثمانينياته وتعد الثورة العرابية لحظة الذروة فيه، حيث تجمَّعت أسباب عدَّة لصياغة مشروع النهضة المصرية، وتضافرت طموحات محمد علي باشا وخلفائه في الاستقلال عن الدولة العثمانية مع كتابات روَّاد النهضة الفكرية وعلى رأسهم رفاعة الطهطاوي، وواكب ذلك حراك فكري وثقافي ساهم فيه مصريون وبعض الشوام الذين لجأوا لمصر هرباً من السطوة العثمانية. يقدم المؤلفان تفاصيل ازدياد الغضب المصري، وتصاعد المشاعر الوطنية، مع التدخل الأجنبي السافر في شؤون البلاد، وأخطاء الحكومات المتعاقبة، وفشل كل الاقتراحات السياسية لتوفيق الأوضاع، حتى ظهر أحمد عرابي وأصبح محبوباً من الشعب، ووضع فيه الناس أملهم وأرسلوا إليه عرائض بمطالبهم، وأثرت تلك الأحداث، بالطبع، في محمد عبده وطريقة تفكيره وعمله السياسي.

يقرُّ المؤلفان بصعوبة تصنيف محمد عبده، كما أسلفتُ، فحسب ببليوجرافيا "أكسفورد" هو صوفي ومصلح ومجدد ومدرس وصحفي وعالم دين ومفسر ومُفتٍ. وُلِد لعائلة متوسطة الحال في قرية "محلة نصر" بمديرية البحيرة، خلال نفس السنة التي توفي فيها محمد علي باشا، وتلقى تعليماً في كتَّاب، ومضت به الرحلة حتى التحق بالأزهر، وانضم إلى جمال الدين الأفغاني مما أحدث تحولاً كبيراً في مسيرته، إذ درس على يديه الفلسفة وكتب المنطق والحكمة والتصوف وأصول الدين والفكر الأوروبي الحديث. ثم نال شهادة العالمية من الأزهر وعُيِّن مدرساً للتاريخ بمدرسة دار العلوم، ومدرساً للعربية في مدرسة الألسن، ثم درَّس في الأزهر حتى أُقيل من منصبه بسبب علاقته بالأفغاني النشط ضد البريطانيين. وظل قيد الإقامة الجبرية في قريته ثم سُمِح له بالعودة للعمل في مجلة "الوقائع المصرية" وأصبح عضواً في المجلس الأعلى للمعارف العمومية، وتواصل مع جماعة عرابي وانضم إلى الحزب الوطني الحُرِّ، وشارك في الثورة مشاركة فعالة انتهت بالقبض عليه ومحاكمته ونفيه عام 1882 إلى بيروت حيث مكث هناك لمدة عام حتى تلقى دعوة من الأفغاني للانضمام إليه في باريس، وأصبح محرراً في مجلة "العروة الوثقى"، وعاد من المنفى 1889 في سن الرابعة والربعين ليبدأ مرحلة جديدة من النضال الفكري استمرت حتى وفاته.

وما يعنينا في كل ذلك هو أن محمد عبده أصبح المعبِّر الفكري عن الثورة في إطارها المعتدل، إذ اختلف مع العرابيين في العلاج لكن الغاية كانت واحدة. ولم يقتصر دوره على الجانب النظري من خلال كتاباته الصحفية، كما يقول أبو غازي وغالي، وإنما اشترك عملياً فبلغ مبلغ ثقة الثوار بأن كلفوه بوضع صيغة اليمين التي حلف بها كبار الضباط. ثم يستعرض المؤلفان نص الوثيقة (الأوراق) لإعادة حكومة أهلية في مصر، وفي أحد بنودها تنصح المصريين بالحذر من هجوم أوروبا عليهم، والحرص على أن تكون حكومتهم في أيديهم لا أيدي الغرباء، واتخاذ طريقة سياسية تضمن لهم تقدم البلاد ونجاحها مادياً ومعنوياً، وإيجاد طريقة لتصفية ديون الفلاحين، وإلغاء المجالس المختلطة، والمساواة بين الأجانب والوطنيين في المجالس والمحاكم، وإنشاء مجالس ابتدائية تضمن للناس عدم إلقاء القبض عليهم بمجرد أهواء الحاكم ظلماً وبهتاناً، وإصلاح الفساد الموجود في السُخرة، وإنشاء مدارس للصبيان وبنات المسلمين، وتقليل عدد الأجانب المتوظفين في وظائف غير ضرورية رويداً رويداً، وإبطال الرق إبطالاً تاماً في خدمة المنازل. يؤكد المؤلفان أن فكرة الجلاء عن مصر كانت مطروحة في السياسة البريطانية، وقت تحرير تلك الوثيقة، ويتساءلان مَن صاحب هذا المشروع؟ وهل تعبِّر الجملة الشارحة "لائحة أساسية لإعادة حكومة أهلية في مصر" التي تسبق عنوان الوثيقة الرئيسي عن حقيقة صائغها؟ أي أن اللائحة كتبها بعض رجال الإنجليز؟ أم أن الغرض من تلك الجملة التمويه إذا سقطت الكراسة في يد السلطات واكتشفت أن محمد عبده هو صاحب المشروع؟ ويجيب المؤلفان أن الاحتمالين قائمان وربما كانت اللائحة نتاج نقاش بين محمد عبده وبعض الساسة الإنجليز، فقد عُرف عنه أنه كان على علاقة ببعضهم.

وينهيان ملاحظاتهما المهمة بالتأكيد على أن كل ما جرى مهَّد لثورة 1919، الثورة الشعبية المصرية الكبرى في القرن العشرين، الثورة التي استمرت خمس سنوات وأكملت تأسيس الهوية الوطنية وحققت لمصر الاعتراف الدولي بها كدولة مستقلة، تلك الثورة التي كان قائدها سعد زغلول أحد تلاميذ الإمام محمد عبده.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق