يرتعد جسدي من الحمّى، قبل ليال.
حين يُثقَل كاهل المرء بتحديات يومية جمة، تتهافت صحته على نحو لم يجل في خلده، بأن كيانه مبني على هذا الكم من الهشاشة.اضافة اعلان
وسط هلوسات الحمى والألم، كانت تتراءى لي امرأتان أثّرن في وجداني أيما تأثير، لا سيما حين يتعلق المرء بفكرة الولادة من رحم الموت.
شفيقة سمّور، الراحلة قبل أعوام من دير ياسين، التي زرتها في منزلها العامر، فرأيت واجهة من صور راحلين قدامى. عرّفتني آنذاك بأنهم عائلتها التي قضت في مجزرة دير ياسين في العام 1948. الأم والأب والزوج والأشقاء ونساؤهم. على الطرف الآخر من الصالة التي تعج بالجالسين أشارت لي إلى ابنتها الناجية التي كانت حبلى بها في الشهر الثامن حين فرّت إلى غرفة موصدة ممسكة بصغيريّ شقيقيها. كان الثلاثة: ابنتها وابنيّ شقيقيها ستينين حين التقيتهم في العام 2008. كانوا يحيطون شفيقة كما لو كانت ما تزال الصبية ذات الثمانية عشر عاما التي فرت بهم ليلا من دير ياسين إلى سلوان إلى أبو ديس لاحقا.
لم تقف ملحمة أمومة شفيقة سمور عند هذا الحد، بل عادت بعد مأساة فقد العائلة كاملة لتأسيس عائلة جديدة من بنات وبنين وأحفاد.
قالت لي إنه لم يمر ولو يوم واحد لم تنس فيه من رحلوا، ولم يمر ولو يوم واحد لم تحتف به بمن أهدتهم لها الحياة من جديد.
السيدة الثانية التي كنت أرى ملامحها فيما أكزّ على أسناني من الحمّى. كانت انتصار الوزير (أم جهاد)، التي كانت امرأة ممسكة بزمام الحزن إلى حد مدهش. في يفوعة الثورة الفلسطينية، اعتقل حافظ الأسد الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات ورجُله الثاني خليل الوزير (أبو جهاد) وعددا من كوادر الحركة الوليدة، التي لم ترض أن تكون لعبة في يد النظام السوري البائد. وسط هذه اللجة الطاحنة من مسؤوليات أم جهاد: رعاية أسرتها الكبيرة، وتسيير شؤون حركة فتح في ظل غياب قادتها، خسرت طفلها ذا العامين الذي سقط عن شرفة الطابق الثاني.
لملمت انتصار جراح ثكلها في دقائق، وذهبت لحافظ الأسد، طالبة منه إطلاق سراح أبو جهاد ليودع نجله، وإطلاق سراح رفاقه ليشدوا من أزره، ومن ثم طلبت تمديد أيام أضافية؛ حتى فرغ كابوس معتقلات الأسد على يد المرأة، التي غادرت معهم سورية تحت جنح الليل. هي ذاتها انتصار التي شاهدت اغتيال زوجها بأم عينيها في منطقة سيدي بو سعيد في تونس، وحين وصل أبناؤها الطلبة جهاد وباسم وإيمان من مقار دراستهم الجامعية، كانوا يخشون من منظر الأم المنهارة، كما قال لي ابنها باسم، غير أن ما حدث كان العكس. انهار الأبناء حين شاهدوا دماء والدهم على جدران المنزل، فيما تمكنت الأم من الشد من أزرهم وإسناد قاماتهم المنهارة أمام حادثة اغتيال جسد والدهم الغض بخمس وسبعين طلقة!
آمل أن ليالي الحمّى والألم قد ولّت عني بلا رجعة، لكنها جعلتني أجزم أني: لا ولن أشبه يوما هؤلاء الأمهات.
السلام عليهن حيثما حللن.
حين يُثقَل كاهل المرء بتحديات يومية جمة، تتهافت صحته على نحو لم يجل في خلده، بأن كيانه مبني على هذا الكم من الهشاشة.اضافة اعلان
وسط هلوسات الحمى والألم، كانت تتراءى لي امرأتان أثّرن في وجداني أيما تأثير، لا سيما حين يتعلق المرء بفكرة الولادة من رحم الموت.
شفيقة سمّور، الراحلة قبل أعوام من دير ياسين، التي زرتها في منزلها العامر، فرأيت واجهة من صور راحلين قدامى. عرّفتني آنذاك بأنهم عائلتها التي قضت في مجزرة دير ياسين في العام 1948. الأم والأب والزوج والأشقاء ونساؤهم. على الطرف الآخر من الصالة التي تعج بالجالسين أشارت لي إلى ابنتها الناجية التي كانت حبلى بها في الشهر الثامن حين فرّت إلى غرفة موصدة ممسكة بصغيريّ شقيقيها. كان الثلاثة: ابنتها وابنيّ شقيقيها ستينين حين التقيتهم في العام 2008. كانوا يحيطون شفيقة كما لو كانت ما تزال الصبية ذات الثمانية عشر عاما التي فرت بهم ليلا من دير ياسين إلى سلوان إلى أبو ديس لاحقا.
لم تقف ملحمة أمومة شفيقة سمور عند هذا الحد، بل عادت بعد مأساة فقد العائلة كاملة لتأسيس عائلة جديدة من بنات وبنين وأحفاد.
قالت لي إنه لم يمر ولو يوم واحد لم تنس فيه من رحلوا، ولم يمر ولو يوم واحد لم تحتف به بمن أهدتهم لها الحياة من جديد.
السيدة الثانية التي كنت أرى ملامحها فيما أكزّ على أسناني من الحمّى. كانت انتصار الوزير (أم جهاد)، التي كانت امرأة ممسكة بزمام الحزن إلى حد مدهش. في يفوعة الثورة الفلسطينية، اعتقل حافظ الأسد الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات ورجُله الثاني خليل الوزير (أبو جهاد) وعددا من كوادر الحركة الوليدة، التي لم ترض أن تكون لعبة في يد النظام السوري البائد. وسط هذه اللجة الطاحنة من مسؤوليات أم جهاد: رعاية أسرتها الكبيرة، وتسيير شؤون حركة فتح في ظل غياب قادتها، خسرت طفلها ذا العامين الذي سقط عن شرفة الطابق الثاني.
لملمت انتصار جراح ثكلها في دقائق، وذهبت لحافظ الأسد، طالبة منه إطلاق سراح أبو جهاد ليودع نجله، وإطلاق سراح رفاقه ليشدوا من أزره، ومن ثم طلبت تمديد أيام أضافية؛ حتى فرغ كابوس معتقلات الأسد على يد المرأة، التي غادرت معهم سورية تحت جنح الليل. هي ذاتها انتصار التي شاهدت اغتيال زوجها بأم عينيها في منطقة سيدي بو سعيد في تونس، وحين وصل أبناؤها الطلبة جهاد وباسم وإيمان من مقار دراستهم الجامعية، كانوا يخشون من منظر الأم المنهارة، كما قال لي ابنها باسم، غير أن ما حدث كان العكس. انهار الأبناء حين شاهدوا دماء والدهم على جدران المنزل، فيما تمكنت الأم من الشد من أزرهم وإسناد قاماتهم المنهارة أمام حادثة اغتيال جسد والدهم الغض بخمس وسبعين طلقة!
آمل أن ليالي الحمّى والألم قد ولّت عني بلا رجعة، لكنها جعلتني أجزم أني: لا ولن أشبه يوما هؤلاء الأمهات.
السلام عليهن حيثما حللن.
0 تعليق