ما يزال حاضرا بعد 35 عاما من الغياب.. غالب هلسا مثقف أردني بهوية عربية

الغد 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
  غالب هلسا (1932-1989) أديب أردني، ورمز من رموز الثقافة العربية في عهدها الذهبي في القرن العشرين، عاش حياته فكرا وممارسة من أجل حرية الثقافة واستقلال المثقّف دون أن يخشى العواقب، وانتزعت أعماله الأدبية والنقدية والفكرية مكانة متميزة بسبب قوة بصيرتها واختلافها فكرا وفنا عن غيرها من الكتابات. عاش وارتحل مجبرا بين عدة عواصم عربية كالقاهرة وبغداد وبيروت.اضافة اعلان
ناقشت كتاباته مشكلات فكرية مهمة مثل قضايا: التقدم والتغيير والحرية والكرامة والعدالة والثورة، والعلاقة بين التراث والمعاصرة، وسائر القيم والمشكلات التي تطلعت إليها القوى الوطنية والتحررية في العصر العربي الحديث. وامتاز بجرأته في طروحاته، لهذا لقب بالمثقف المنظّر أو المحارب، إذ غاص بروايته "الضحك" في أزمة المثقفين، وفق ما نشر على موقع "الجزيرة نت".
عندما نعيد قراءة مسار حياة هلسا وإبداعه ونتذكر انطلاقه من قرية جبلية صغيرة تدعى "ماعين" غرب مدينة مادبا، تطل على البحر الميت وعلى آفاق فلسطين، وقد ولد فيها يوم 18 ديسمبر (كانون الأول) 1932، ثم امتدت رحلته في الأماكن والأزمنة والجماعات والحركات المتشعبة، وعندما نتأمل تأثيره ودوره وثقافته النوعية الجدلية في حله وترحاله، يخطر في البال أنه أقرب لأن يكون هبة الأردن للثقافة العربية والإنسانية، هبة قدرية لم يخطط لها أحد، ولكنها تركت أثرا فاعلا مستمرا حتى اليوم.
منذ طفولته أسرع الخطى سابقا رفاقه ومُجايليه، لينضم دائما إلى من هم أكبر سنا منه، دخل المدرسة صغيرا، وترفع إلى صفوف أعلى بسرعة، وأنهى تعليمه المدرسي عام 1949، وله من العمر 17 سنة، ويبدو أنه تعرف إلى طريق الأحزاب وهو طالب في المدرسة، فكان نصيرا للحزب الشيوعي.
وعندما انتقل إلى لبنان بقصد إتمام دراسته الجامعية في الجامعة الأميركية في بيروت انتمى إلى الحزب الشيوعي اللبناني، وقبض عليه وتم ترحيله إلى الأردن، وظلت حياته محكومة بالاعتقال والترحيل والسجن في مختلف البلدان، توجه إلى العراق ولم يوفق بسبب صلته بالحزب الشيوعي العراقي أوائل الخمسينيات، فعاد إلى الأردن.
انتقل إلى مصر عام 1954، فكانت محطة طويلة مهمة في حياته استمرت نحو 22 عاما، شهدت تطور شخصيته الأدبية والنقدية، كما شهدت تعرضه لما تعرض له المثقفون المصريون من سجن واعتقال، حتى طرد منها في عهد الرئيس الراحل أنور السادات عام 1976، إلى بغداد مجددا، فقضى فيها نحو 3 سنوات، قبل أن ينتقل إلى بيروت، ويشهد فيها الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، والمواجهة المباشرة مع الاحتلال.
لقد عاش غالب معظم سني حياته في صورة مغترب ومنفيّ، يحاول أن ينتمي أو يندمج أو يمدّ ما يشبه الجذور لينعم بشيء من الاستقرار، ولكن أقدار حياته حملته إلى أن يعيش في بلدان متعددة، بدءا من موطن ميلاده وطفولته في الأردن، مرورا ببغداد وبيروت والقاهرة ودمشق، بشكل أساسي.
تتمثل تركة غالب هلسا الثمينة في أعماله الأدبية والنقدية والفكرية التي ما تزال موردا ثقافيا مهمًّا من موارد ثقافتنا العربية المعاصرة، وهي أعمال تتميز بروحها النقدية الجدلية، بما فيها أعماله الروائية. وهذا الضرب من الإنتاج الأدبي له أهمية خاصة، لأنه يعلمك أن تفكر وألا تتقبل الأفكار بسهولة ويسر إلا بعد نقاش.
ولغالب 7 روايات معروفة تقع في الطبقة الأولى من أعمال جيله، وما تزال تحتفظ بقوتها ومنطقها الإبداعي، حتى بعد مرور عقود طويلة على كتابتها ونشرها، وفي هذا البقاء والصمود ما يشهد على فرادتها وحياتها المتجددة، فقد بدأ الكتابة في سن مبكرة، تقريبا في الرابعة عشرة من عمره، منتجًا 7 روايات هي بتسلسل ترتيبها التاريخي: "الضحك"، "الخماسين"، "السؤال"، "البكاء على الأطلال"، "ثلاثة وجوه لبغداد"، "سلطانة"، "الروائيون".
وله مجموعتان قصصيتان سبقتا تجربته الروائية هما: "وديع والقديسة ميلادة وآخرون"، و"زنوج وبدو وفلاحون". وله عدة أعمال نقدية تمثل ممارساته النقدية التي لا تنفصل عن إبداعه، وقد ظهرت في كتب في حياته وبعد رحيله، مثل: "الهاربون من الحرية" و"اختيار النهاية الحزينة.. يوميات الصراع الطبقي في الساحة الفلسطينية في عقد الثمانينيات"، فضلا عن إسهامات نوعية في الفكر والفلسفة والترجمة والكتابات السياسية.
وقد تعددت عناصر هويته الإنسانية والثقافية واغتنت بكثير من آثار تجواله واغترابه الطويل في بلدان متعددة، ولعل "أردنيته" التي انتمى إليها بحكم الميلاد والنشأة والأسرة  ظلت تتراءى له في مراحل حياته المختلفة، تظهر في شخصياته وخيوط ثقافتها وتكوينها، وفي شخصية بطل متكرر عنده لا يبعد عن شخصية غالب نفسه.
وتجلت هذه الهوية في مجموعتيه القصصيتين بما فيهما من قصص استوحت البيئة الأردنية وقضاياها الاجتماعية والسياسية في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين، ووجدت تجليها الأوسع والأعمق في رواية "سلطانة" التي يمكن النظر إليها بصفتها رواية أردنية محكمة تُمثل شخصية مؤلفها والهُوية التي حملها طوال حياته.
والطبقة الثانية في تكوينه تتمثل في الهوية المصرية، فقد وصل مصر شابا طموحا متطلعا منتصف خمسينيات القرن العشرين وعاش فيها نحو 22 سنة متصلة، واستكمل فيها تكوينه مع مُجايليه من أدباء الخمسينيات والستينيات المصريين، وعومل في معظم الأحيان بوصفه مثقفا وكاتبا مصريا.
عرف تفاصيل الثقافة المصرية وأتقن لهجتها وكتب رواياته بمشاركة شخصيات مصرية تتكلم في حواراتها باللهجة المصرية التي تحمل معها ثقافتها وأصداء مجتمعها وطبقاتها المركبة. وتحظى مرحلة إقامته المصرية (1954 - 1976) بميزة خاصة، ذلك أنها رافقت شبابه المبكر واستعداده للنضج، فضلا عن اتصاله بأدباء الخمسينيات والستينيات من أبناء جيله.
اقترب من التنظيمات والحركات الفلسطينية في مرحلته المصرية، فكان عضوا في اتحاد الكتاب الفلسطينيين، وقد أدار ندوة الاتحاد عن المشروع الأميركي في المنطقة عام 1976 وانتهت تلك الندوة بإبعاده وطرده من مصر.
ويمكن أن نلتمس المكون الفلسطيني عنده في عدة مؤشرات تتداخل لتكوين الصورة الكاملة للهوية الفلسطينية عند غالب، وانشغاله بفلسطين وتجلياتها الأدبية والثقافية والفكرية. من هذه المؤشرات: اهتمام غالب بقراءة نماذج مهمة من الأدب الفلسطيني، ونقدها وتحليلها، من مثل كتاباته البارزة عن أعمال كتاب ومثقفين معروفين من مثل: جبرا إبراهيم جبرا، وإميل حبيبي، وماجد أبو شرار، وغسان كنفاني، وإميل توما.
وتبدو قراءة هلسا لنتاجات هؤلاء الفلسطينيين قراءة داخلية تقوم على الكفاءة الفكرية والجمالية، وعلى إحساس عميق بالقضية الفلسطينية وتجلياتها الأدبية والفكرية. ومنها اهتمامه بالأدب الصهيوني، متبعا خُطا غسان كنفاني الذي كان من أوائل المثقفين الذين دعوا إلى قراءة هذا الأدب بوصفه أدبا نقيضا يساعدنا على فهم العدو، خصوصا في المجال الأدبي والثقافي، لتكون المواجهة مبنية على المعرفة المباشرة لا على الصورة المتخيلة.
ومن الجلي أنه لم يكتف باتجاه واحد في الكتابة، بل ظل يتطور ويتثقف بالجديد ويفيد من تجاربه طوال حياته، بعيدا عن الجمود الذي أصاب بعض مُجايليه، ومن هنا نقرأ حضور تقنيات وأساليب كثيرة في أعماله من مثل: الإفادة من أدب همنغواي في طبيعته الجافة التي تكسر الحس الرومانسي باعتماد لغة الحواس، وبمبدأ جبل الجليد العائم الذي يقتضي الكثافة والإيحاء والبعد عن التفاصيل المضجرة، وكذلك الاعتماد على طاقات الحلم والكابوس وإيقاظ عالم اللاوعي وصولا إلى الاتصال بالتكوين النفسي وتعقيده كما تطرحه مدارس علم النفس خصوصا عند كارل يونغ وإريك فروم.
وكان من الكتاب المبكرين في دمج لمحات السيرة الذاتية بالرواية، فليس من المستغرب أن تحمل شخصيته الرئيسية اسم "غالب" في "الخماسين" و"ثلاثة وجوه لبغداد"، أو أن نجد تشابها بين شخصية المؤلف والبطل الروائي كما في بقية الروايات. إنه يدخل الذات إلى عالم التخييل مؤملا أن يبلغ أقاصيها الغائرة، كأن الكتابة استبصار باتجاه الداخل والخارج معا.
كما اهتمت كتاباته بجماليات المكان إبداعا ونقدا وترجمة، حتى غدا فرعا رئيسيا من فروع الدراسة النقدية المعاصرة، وتتميز تجربته بضرب نادر من الإخلاص للكتابة، ذلك أن غالب لم يكن يكتب كفنان أو أديب فقط، بل يبدو أنه كان ينظر إلى الكتابة بوصفها ضربا بديلا من الحياة، بل لا نستبعد أن حياته الواقعية هي التي تبادلت التفاعل مع كتابته، خصوصا مع الإطلالة على صحبته المبكرة للكتب والقراءة بالعربية والإنجليزية، ومحاولته أن يكتب بأسلوب عالمي يتجاوز حدود الجغرافيا التي وجد نفسه حبيسا في حدودها.
أخيرا يمثل الإنتاج الأدبي والفكري للأديب الراحل غالب هلسا "ميراثا" حيويا وأساسيا من تركة الأدب العربي في النصف الثاني من القرن العشرين، ورغم مرور ثلاثة عقود ونصف على رحيل هلسا فإن ميراثه الإبداعي والفكري مايزال حاضرا في حياتنا الأدبية والثقافية، بل ينشأ له قراء جدد لم يشهدوا عصره وسنوات حياته، فيكون أدبه مدخلا من مداخل المعرفة والإحاطة بأحوال تلك المرحلة المؤثرة على مختلف الأصعدة.
إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق