لم نشهد مفترَقًا مقلقًا مفزِعًا مُضْجِرًا في الممارسة النقديَّة العربيَّة، مثلما نشهده في هذا العصْرِ من اضطرامٍ واضطرابٍ، وقلّةِ هدْأةٍ، ونبوِّ سكْنَةٍ، ونفور هجْعةٍ، ومفارقةِ موْئلٍ ضامنٍ آمنٍ. لقد كان النقد منذ بدايات القرن العشرين، وهبوب عواصف أو رياح أو نسَمات الأثر الغربيِّ في قِوَام ما تأسَّس وتهيَّأ مِن نقد عربيٍّ موروثٍ عن عقولٍ أعملت معاوِل هادمة أحيانًا، عاملة عالمة أحايين كثرة، حاملاً لوجهتين وتيّارين ومسلكين، تعايش تيّاران متزاحمان، متعارِضان، متضادّان، متناطحان، تيّارٌ يدعو إلى التمسُّك بأصولِ النقد القديم، وهو في الغالب الأعمِّ غافلٌ عن بنية هذا النقد وأبعاده وفلسفة اختباره وإجرائه (ولنا مآبٌ للخوْضِ في هذه الغفلة)، وتيَّارٌ وقع على علومٍ من الغرْب نافعة، أخذ رغوتها أو زُبْدتها ونخَل بها أدبًا عربيًّا. عشنَا هذه الفُرقة النقديّة في أوْجها وحدّتها وشدّتها، بين مَن يرى ضرورة التركيز على حياة المؤلّف وعصره وواقعه في قراءة الأدب ونقده، وهو واهمٌ أنّه يسلك مسلك القدماء، ومَن يرى ضرورة التخلُّص مِن أثر الواقع والانغماس في الأثر الأدبيّ، لا أثر يُنظر فيه غيره، والإعراض عن حياة المؤلّف وعن عصره وعن قضاياه، والإيمان بمكتسبات الغرب النقديّة التي تهبّ بنا يمينًا وشمالاً، تقفو خطى اللّسانيّات أحيانًا، وخطى الفلسفة أحايين، وخطى المنطق أزمنة أخرى، فكُنّا كالقشّة في مهبّ الرياح، ندافع باستماتة يومًا عن البنيويّة ونقاتل في اليوم الثاني تبشيرا بالتداوليّة ونحارب ترسيخًا للسيميائيّة، ومَن اعتصم منّا بنهج أو منهج صار أقرب إليه من أبنائه. وفي كلّ هذا التنافر، كان السَّبيل واضحًا، تنازع بين التقليد والتجديد، أمّا اليوم، وقد سقطت الإيديولوجيّات، وتهاوت الأفكار الكبرى المؤسّسة، ووقفنا تأمُّلا في جدوى اتّباع الغرب في كلّ مظاهر حياتنا، فكرًا وعلمًا وعملاً، فإنّ النقد قد توقّف أيضًا، وتساقطت أوراق توته، فما النقد مرّة أخرى، وما سبيل تحقيقه؟ هل هو القدرة على إعْمال أدواتٍ نظريَّةٍ بها تُحْفَر النّصوص ويُغَاصُ في أعْماقها؟ هل هو تعقُّل الخطاب الأدبيّ وبيان رسالته ومحموله القضويّ؟ هل هو تأويلٌ وتدبيرٌ أو مسايرةٌ وتسيير؟ لا شكَّ أنّ كلّ هذا نافع وصالحٌ، غير أنّنا اليوم نفتقد عقلاً عربيًّا ناقِدًا يُحدّدُ مسار السَّبيل، وهذا لا يكون إلاّ بقراءة نقديَّة سليمة لموروثنا النقديّ ولحادثِ الممارسة النقديّة تنظيرًا وتطبيقًا. لقد هام نُخبة من الأكاديميين الأفاضل بالأسلوبيّة، وبشَّروا بها، واعتصموا بحبْلها، وخاضُوا فيها وجوهًا عددًا، وكان على رأس من قام بذلك من أساتذتنا في العالم العربيّ صلاح فضل صاحب كتاب "علم الأسلوب"، وصاحب عدد من المؤلّفات التي نظَّرت للنصّ وخواصِّ أسلوبه، اعتصامًا بالمحايثة، والالتزام بالبُنى اللّغويّة، إذ هي محدّدة الخطاب وباعثة شكله ومعناه، وأستاذنا محمّد الهادي الطرابلسي الذي أعْمل الأسلوبيَّة أوَّل ظهورها عند العرب على شعر أحمد شوقي، وخاضَ فيه إحصاءً واحتسابًا، وإيمانًا بأنَّ المعاني لا تُكتسب في الخطاب الأدبيّ إلاّ إذ حملتها اللّغة، ولذلك فإنَّ اللّغة هي الأصل، وهي محطّ النَّظر، ومركز الدَّرس. مشكلتي مع أساتذتي هؤلاء، أنّهم عاندوا وقاوموا وثبتوا على العهد، ولم يتحوَّلوا بيسر، ولم يُغيِّروا من طرائق تناولهم، ففي الوقت نفسه الذي تشابكت فيه الأفكار في الغرب معلنةً موت الأسلوبيّة وخائضةً في بدائلها الممكنة، كان دُعاة الأسلوبيّة في الجامعات العربيّة يستميتون في إبْقائها ورعايتها وتحنيطها. ما دعاني إلى كتابة هذا المقال، ليس عرض تاريخ النقد، ولا بيان العصبيّة النقديّة الجامعيّة تحديدًا في تحنيط المناهج الميتة والأدوات النقديّة الصائرة إلى فناءٍ، بل سؤال مُحرق، مقلقٌ، إلى أين المنتهى؟ إلى أين ينتهي النقد العربيّ بجميع أوجهه؟ ألا يحقُّ لنا الآن أن نعود إلى هذا التراكم الحديث من فصول النقد العربيّ، إلى "غربال" ميخائيل نُعيمة، وبيان الفِكَر التي تحكّمت فيه، والعُنْف الذي واجه به كلاسيكيّات أحمد شوقي، أن نعود إلى مناكفات طه حسين، ومحاوراته، وصراعاته، مع مصطفى صادق الرافعي والخضر حسين وزكي مبارك الذي وسم طه حسين في أكثر من مقالة بالجهل؟ هذه المحاورات العميقة أحيانًا، العقيمة أحايين كثيرة، التي سجّلت في تاريخ العرب الحديث محاكمات للأدب مسَّت أدباء كُثْرًا ومفَكِّرين عددًا، حتّى وجدنا الفضل، والقدرة النقديّة عند القُضاة أحيانًا، الذين يفصلون بين جناية الفكر المرغوبة المطلوبة، وجناية الفعل المرفوضة الملفوظة، ويُمكن أن نختصر ذلك في نصّ الحكم الذي أعلنه القاضي الذي بتَّ في الشكوى القضائيّة التاريخيّة في محاكمة كتابِ "في الشعر الجاهليّ" لطه حسين، يقول القاضي المحترم: "ونحن نرى أنَّ ما ذكره المؤلِّف في هذه المسألة هو بحث علميٌّ لا تعارض بينه وبين الدِّين ولا اعتراض لنا عليه، حيث إنَّه مما تقدَّم يتَّضح أنَّ غرض المؤلِّف لم يكن مجرد الطَّعن والتعدِّي على الدِّين بل إنَّ العبارات الماسَّة بالدِّين التي أوردها في بعض المواضع من كتابه إنَّما قد أوردها في سبيل البحث العلمي مع اعتقاده أنَّ بحثه يقتضيها، وحيث إنَّه من ذلك يكون القصد الجنائيّ غير متوفّر، فلذلك، تحفظ الأوراق إداريا". لابدّ أن نعود إلى هذه الأرضيَّة التنازعيّة بين دعاة القديم وأنصار الحديث، وما أثارته من أفكارٍ وقضايا وانعكاسٍ على المجتمع، حتى نفهم طبيعة العقل العربيّ الناقد، لأنّي على يقين أنّ أنصار القديم لم يكونوا يُمثِّلون نقدًا قديما ولا يتمثَّلونه أيضا، ولأنَّ أنصار دُعاة الحديث لم يكونوا سوى أصداء لنقد حديث لم يتعقَّلوا عناصره ولا مقامَه الاجتماعي والمعرفي في تلك الصراعات التي نُقد بها شعر شوقي وأعمال الرومنسيين، وشعر السيّاب من بعد ذلك، ونازك الملائكة وغيرهما. فكانت هنالك أزمة حقيقيّة بين الخطَّين المتفارقين، عدَّلتها -إلى حدٍّ ما- بدايةً من سبعينيّات القرن الماضي جهود المدرسة النقديَّة المغربيّة التي تجاوزت ثنائيّة القديم والحديث، وأعْملت من حديث النقد ما يُمكن أن يمتصّ قديمًا، ويُجْرَى أيضا على قديم النصوص، غير أنّ المدرسة المغربيّة ذاتها وقعت في أزمة الاعتصام بالمفهوم والإجراء الغربيّ وأطَالت البقاء في مكانة التّابع، وإن استدعت أصداء من الموروث النقديّ، وآمنت إيمانًا مُطلَقًا بالخطّ الحادث القائم على استدعاء المناهج الغربيّة دون استدعاء لمقامات إنتاجها. الآن، وهنا، كيف ننظرُ إلى الأدب في ظلّ وقفةٍ وبهتةٍ، وبلهٍ نقديّ ومعرفيّ، وفي ظلّ سقوط ثنائيّة القديم والحديث، وتهاوي الصراع المعرفيّ صاحب اللّسانيْن؟ هل نُواصِلُ نقد الأصداء، أو نقيم نقد الإصغاء إلى النصوص، وإعمال القلب لبلوغ "المزيَّة" والفضل؟
0 تعليق