في العصر العباسي الثاني، شهدت البحرين تحوّلات جذرية نتيجة تراجع الخلافة العباسية. حيث ظهرت في هذه المرحلة التاريخية بعض الحركات التخريبية ومنها القرامطة، وهي حركة هدامة تمثل امتداداً للحركات الباطنية وظهرت أولاً في الكوفة على يد حمدان بن الأشعث الملقب بقرمط، ومن هنا جاءت تسميتها بالقرمطية أو القرامطة، وحاول أحد دعاتها المدعو أبوسعيد الجنابي نشرها في البحرين أواخر القرن الثالث الهجري - التاسع الميلادي مستغلاً ضعف الخلافة العباسية والفراغ السياسي وانعدام الاستقرار والذي تزامن معه تدهور الأحوال الاقتصادية، وحاول كسب الأتباع وتحقيق طموحه من خلال رفعه شعارات برّاقة ذات أبعاد دينية واجتماعية واقتصادية منها العدالة الاجتماعية وتحسين الأحوال الاقتصادية علاوة على وعوده للبعض بالسلطة والنفوذ، إلا أن هذه الشعارات كانت مجرد وعود خادعة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، لذا سعى لتحقيق طموحه في السلطة والنفوذ من خلال نشر الفوضى والفساد. حيث مارس الجنابي وأتباعه سياسة شن الغارات والعدوان وفرض الحصار وسياسة الأرض المحروقة والعقوبات الجماعية على مدن البحرين لتحقيق أهدافهم وفرض حركتهم، وهكذا سيطر على عدة مدن في البحرين بالتتابع ومنها الزارة وصفوى والظهران وبيرين وأوال وصولاً إلى هجر بعد فرضه حصاراً شديداً عليها وارتكابه مجازر بحق أهلها، حيث قتل وحرّق العديد من أعيانها وعلمائها. وقد وثّق الشاعر ابن المقرب تلك المجزرة بقوله:
وحرقوا عبد القيس في منازلهم
وغادروا الغر من ساداتها حمما
وهكذا استطاع أبو سعيد الجنابي ومن خلال استخدامه أبشع الجرائم وأساليب خداع متنوعة واستغلاله احتياجات الناس الأساسية -وما ذلك إلا جزء من سياسته الانتهازية التي مكّنته من فرض نفوذه- التوسع معلناً سنة 287 هـ /900 م سيطرة حركته القرمطية على أغلب نواحي البحرين. تسجّل هذه الأحداث كيف تمكّنت القرامطة من استغلال الفوضى السياسية والاقتصادية، وكيف أثّرت على التوازنات الاجتماعية والسياسية في البحرين.
وعلى الرغم من تمادي القرامطة وعنف حركتهم، إلا أن أهل البحرين بما يملكونه من شخصية متميزة وموروث حضاري وثقافي أصيل وانتهاجهم سياسة الاعتدال والوسطية وشعورهم بالمسؤولية تجاه أمتهم والتزامهم بالقيم والثوابت الدينية والأخلاقية وتطلّعهم للحرية والاستقلال قاوموا وبشجاعة هذه الحركة المتطرّفة، ممّا يعكس وعيهم وحرصهم الدائم على السلام والاستقرار ورفض كل أشكال العنف والتطرّف والاضطراب.
وهو ما أكّده ميثاق العمل الوطني حيث جاء فيه: "ونظراً لما تتمتع به البحرين من مكانة جغرافية تتمثل في موقعها المتميز ومواردها فقد تسابق عليها الفاتحون والطامعون، ولا عجب أن قاوم شعبها هذه القوى الطامعة" فاليوم يصادف ذكرى الميثاق الذي أكّد المقومات الأساسية لمملكة البحرين، وهوية البحرين الحضارية التاريخية العربية الإسلامية ومثّل تجسيداً للرغبة في بناء مجتمع متماسك يسعى لتحقيق التقدم والازدهار، بعيداً عن العنف والفتن.. إنّ احتفال البحرينيين بهذا اليوم دليل على التزامهم بالقيم الوطنية السامية، وهو ما يعكس تطلّعاتهم نحو مستقبل أفضل. وبالتالي، فإنّ ذكرى الميثاق تُعيد إلى الأذهان أهمية العمل الجماعي في مواجهة التحديات والوحدة، تماماً كما فعل أسلافهم في التصدي للقرامطة. فكما واجهوا الفوضى بعزيمة وإرادة، يسعى البحرينيون اليوم إلى تحقيق الاستقرار والتنمية من خلال ميثاقهم الوطني، الذي مهّد الطريق نحو حياة ديمقراطية متطوّرة تعزّز قيم التضامن والتعاون.
* باحث في التاريخ وأكاديمي
0 تعليق