"الصحة العالمية" في مرمي المُناورات السياسية

البوابة نيوز 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

كان قرار إدارة ترامب في 20 يناير 2024 بانسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية بمثابة تحول عميق في سياسات الرعاية الصحية العالمية، لكن آثاره تتجاوز الجغرافيا السياسية إلى حد كبير، ففي صميم هذا الانسحاب تجاهل متهور للمساواة الصحية العالمية، وهو بلا شك يوسع الفجوات الصارخة بالفعل بين البلدان ذات الدخل المرتفع والمنخفض.

إن انسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية ليس مجرد قرار سياسي؛ بل إنه ضربة مباشرة للأمن الصحي لملايين البشر في البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط ​​الذين يعتمدون على المنظمة الدولية في الخدمات الصحية الأساسية.

على مدى عقود من الزمان، كانت منظمة الصحة العالمية العمود الفقري لمبادرات المساواة في الرعاية الصحية العالمية، حيث كانت بمثابة مورد حيوي للوقاية من الأمراض وحملات التحصين وبرامج صحة الأم، وبدون التمويل الأمريكي ــ الذي يشكل نحو 16% تقريبا من ميزانية منظمة الصحة العالمية فإن المبادرات الحاسمة التي تستهدف الأمراض التي يمكن الوقاية منها سوف تواجه انتكاسات فورية وطويلة الأجل.

على سبيل المثال، تعتمد برامج القضاء على شلل الأطفال في أفغانستان وباكستان بشكل كبير على المساهمات الأمريكية، وقد يؤدي أي خفض مفاجئ إلى عودة شلل الأطفال، مما يعرض للخطر ليس فقط السكان المباشرين، بل وأيضا الجهود العالمية للقضاء على المرض بحلول عام 2030.

وفي أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، ربما  تنخفض تغطية التطعيم إلى أقل من 50% في بعض المناطق، ويساعد التمويل الأمريكي في ضمان الوصول إلى اللقاحات للأطفال والنساء الحوامل واللاجئين في حالات الطوارئ.

ويدعم هذا التمويل جهود التطعيم العالمية مثل التحالف العالمي للقاحات والتحصين ومبادرة القضاء على شلل الأطفال العالمية، وكلاهما لا غنى عنه لتحقيق الهدف الثالث من أهداف التنمية المستدامة: "الصحة الجيدة والرفاهية للجميع".. وبدون هذه الأموال، فهناك مخاطرة  بخسارة التقدم المحرز في تغطية التحصين على مدى العقدين الماضيين.

إن التكلفة الحقيقية لانسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية لا تتعلق فقط بالأموال المفقودة؛ بل تتعلق أيضًا بأرواح البشر المعرضة للخطر، في العديد من البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، تعد منظمة الصحة العالمية المنظمة الوحيدة القادرة على الاستجابة لتفشي الكوليرا أو الملاريا أو حمى الضنك، حيث تعاني الأنظمة الصحية من ضغوط هائلة ونقص الموارد.

وقد أبرز تفشي الإيبولا في غرب أفريقيا (2014-2016) مدى السرعة التي يمكن أن تتفاقم بها حالة الطوارئ الصحية دون دعم دولي قوي، ولعبت الولايات المتحدة، إلى جانب منظمة الصحة العالمية، دورًا حاسمًا في الاحتواء والدعم.

ومن خلال الانسحاب، تخاطر الولايات المتحدة بتقويض الاستجابات الدولية لتفشي الأوبئة في المستقبل، مما يجعل هذه البلدان عرضة لعواقب مدمرة، وخاصة الفئات المهمشة مثل اللاجئين… إن زيادة معدلات الإصابة والوفيات بين هذه الفئات هي نتائج متوقعة إذا انهارت الأنظمة الصحية بشكل أكبر أو فشلت في التوسع.

إن انسحاب الولايات المتحدة يثير تساؤلات جوهرية حول عدالة وشمولية حوكمة الرعاية الصحية العالمية،  لقد دافعت منظمة الصحة العالمية منذ فترة طويلة عن نهج متعدد الأطراف في التعامل مع السياسة الصحية، حيث جمعت بين الدول المختلفة للتركيز على الرعاية الصحية كحق إنساني عالمي.

يشير خروج إدارة ترامب إلى سياسة انعزالية أنانية، مما يترك البلدان المهمشة بالفعل في وضع محفوف بالمخاطر، لا تقتصر الأزمات الصحية على الحدود الوطنية؛ يمكن أن تتحول حالة الطوارئ الصحية في منطقة واحدة بسرعة إلى قضية عالمية، كما أظهر جائحة كوفيد-19.

يضمن الإطار المتعدد الجنسيات لمنظمة الصحة العالمية عدم تخلف أي دولة عن الركب، ولكن بدون الولايات المتحدة، يصبح نظام الرعاية الصحية العالمي مجزأ بشكل متزايد، مع تراجع الدول الأكثر ثراء لإعطاء الأولوية لمصالحها الخاصة.

قد تتدخل الصين لملء الفراغ الذي خلفته الولايات المتحدة.. ومع ذلك، وكما رأينا في تعامل الصين مع تفشي كوفيد-19، فإن السيطرة الأحادية الجانب على أولويات الصحة العالمية يمكن أن تؤدي إلى تفاقم التفاوتات القائمة في الرعاية الصحية.

 والحقيقة هي أن عمل منظمة الصحة العالمية لا يمكن الاستغناء عنه، فهي المهندسة للمبادرات الصحية التي تحمي الفئات الأكثر ضعفا في جميع أنحاء العالم، وخاصة في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل.

وبدلًا من التخلي عن المنظمة، ينبغي للولايات المتحدة أن تشارك في عملية الإصلاح، والعمل على تحسين الشفافية والكفاءة.. وهذا من شأنه أن يسمح للولايات المتحدة بالحفاظ على دورها القيادي في تشكيل الرعاية الصحية العالمية، مع معالجة أي أوجه قصور متصورة في عمليات منظمة الصحة العالمية.

باختيار الانسحاب، لم تتخل إدارة ترامب عن الزعامة الأمريكية في دبلوماسية الرعاية الصحية العالمية فحسب، بل أرسلت أيضًا رسالة مفادها أن المساواة في الصحة تشكل مصدر قلق ثانوي على الساحة العالمية.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق