تواجه معاشات أساتذة الجامعات في مصر تحديات كبيرة تؤثر على مستوى معيشتهم بعد سنوات طويلة من خدمة الوطن. يعود ذلك بشكل رئيسي إلى جدول رواتبهم المدرج في قانون صادر منذ أكثر من خمسين عامًا، وتحديدًا عام ١٩٧٢، والذي خصص أكثر من ٨٠% من إجمالي راتب الأستاذ الجامعي كمتغيرات من بدلات ومكافآت وحوافز، بينما لا يشكل الراتب الأساسي سوى أقل من ٢٠% من الإجمالي.
هذا الوضع يجعل قيمة المعاش ضئيلة للغاية مقارنةً بالجهد والعطاء اللذين قدمهما الأستاذ طوال مسيرته المهنية، ومهما حدث من تغييرات في قانون التأمينات، فإن معاشات المجتمع الجامعي لا تكفي لدفع فواتير الكهرباء والغاز والمياه.
صحيح أن هناك إمكانية لاستمرار أستاذ الجامعة في العمل بعد المعاش، وتقاضي مكافأة تساوي راتبه قبل الإحالة إلى التقاعد، بالإضافة إلى قيمة المعاش، إلا أن هذا الحل مؤقت ولا يمكن أن يستمر إلى الأبد. هناك حالات كثيرة يعاني أصحابها من أمراض تمنعهم من الاستمرار في أداء رسالتهم، وبالتالي يتقاضون معاشهم فقط. كما أن هناك من لا يستطيع تحمل أعباء جدول دراسي مكثف، وقد يصاحب تخفيف العبء خصومات من المكافأة.
ولو وضعنا في اعتبارنا أن هناك توجهًا من بعض الجامعات الحكومية نحو الاستقلال المالي بعيدًا عن موازنة الدولة، فإن ذلك قد يؤدي إلى محاولات لتحقيق وفورات مالية من خلال الاستقطاعات، حتى لو كانت على حساب خصم مكافأة من أساتذتهم الذين علموهم، لمجرد تحقيق وفورات مالية. هذا الأمر، بخلاف كونه مهينًا، يشكل تهديدًا خطيرًا لمن لا يستطيع تحمل عناء العمل المكثف. ففي حال تطبيق هذا النظام، سيكون الوضع صعبًا؛ إذ إن البعض، مع تقدم العمر، قد يصابون بأمراض مزمنة تمنعهم من الالتزام بالحضور اليومي وتحمل أعباء تدريسية عالية.
ومع غلاء الأسعار وارتفاع التضخم، يصبح المعاش الذي يتقاضاه الأستاذ الجامعي غير كافٍ لتلبية احتياجاته الأساسية من فواتير الكهرباء والمياه والغاز، بالإضافة إلى المأكل والملبس والمواصلات. هذه التحديات تجعل حياة الأستاذ الجامعي بعد المعاش صعبة للغاية، وتؤثر على كرامته وراحته النفسية، في وقت ينبغي أن يتم تكريمه من الدولة بمعاشات لائقة. كما ينبغي أن يُترك لمن يقدر منهم على العطاء بحب وشغف حرية الاستمرار، لا أن يكون مجبرًا لتعويض نقص الدخل بعد بلوغ سن التقاعد.
إن أساتذة الجامعات هم ثروة قومية يجب على المجتمع تقديرها وتوفير كل الدعم لها. فمن غير المعقول أن يعاني هؤلاء القامات من ضائقة مالية بعد سنوات طويلة من خدمة الوطن. لذا، يجب أن تتحرك الدولة والمسؤولون سريعًا لتعديل جدول رواتب قانون تنظيم الجامعات، وزيادة نسبة الراتب الأساسي ليشكل ٨٠% من إجمالي الراتب، على غرار ما حدث في قانون الخدمة المدنية، الذي حدد الأجر الوظيفي بنسبة ٨٠%، والأجر المكمل بنسبة ٢٠%، بما يضمن حياة كريمة لأساتذة الجامعات بعد سنوات طويلة من العطاء.
كما يجب استحداث قانون بإنشاء صندوق لتعويض ضعف المعاشات، على غرار الصناديق العديدة الموجودة في الكادرات الخاصة الأخرى، التي تعوض ضعف معاشاتهم من خلال موارد يتم استحداثها لهذا الصندوق، مثل فرض رسوم ونسب من واردات الجامعات وطوابع على أي مستند، وتوسيع نطاق الرعاية الصحية لتشمل أسرهم، وإنصاف هؤلاء الذين أفنوا حياتهم في خدمة العلم والتعليم.
لأنه لا يكاد يمر يوم أو بضعة أيام إلا ويختطف الموت أحد أساتذتنا، أو زملائنا، أو أبنائنا من الهيئة المعاونة، فنقيم لهم العزاء ونترحم عليهم، ثم ننساهم لتصبح ذكراهم مجرد ماضٍ، بينما تستمر أسر المتوفين في المعاناة مع معاشات هزيلة ونظام طبي لا يؤمّن لهم الرعاية الصحية. نشاهدهم يصارعون متطلبات الحياة ولهيب نيران غلاء الأسعار، ويتخبطون في أهوالها، ومنهم من يضطر أبناؤه لترك التعليم والعمل للمساعدة في الإنفاق... ونحن صامتون. قد نجمع للأسر تبرعات، ولكن ماذا بعد؟
اليوم، نحن نترحم على أساتذتنا وزملائنا ونطلب لأسرهم المساعدة، وغدًا زملاؤنا وطلابنا سيترحمون علينا...!
هذا الجانب المظلم من معاناة بعض أسر المتوفين مخفي عن أعين العامة، وقد يستحي البعض من الإفصاح عنه. ورغم قساوة العرض وشدته وآلامه، فإن الضرورات تبيح المحظورات. إنها مأساة يجب أن يراها المجتمع ليشعر بها، بدلًا من تصدير الصورة السلبية التي تختصر أستاذ الجامعة في ظاهرة الدروس الخصوصية أو التجارة بالكتب، وهي الصورة التي يحاول البعض الترويج لها للتغطية على الوضع المادي المتدهور ونظام المعاشات المتردي.
هل يُعقل أن يكون معاش أستاذ دكتور أفنى أكثر من أربعين عامًا في خدمة مهنته ثلاثة آلاف جنيه أو حتى أربعة آلاف؟! ومن يتوفى في سن صغيرة قد لا يصل معاشه إلى تلك الأرقام!
هل لنا أن نحاسب أنفسنا على هذا التقصير؟ هل هناك من يحاسب جميع وزراء التعليم العالي والقيادات الجامعية على مدار تاريخ الجامعات بسبب إهمالهم في حق كل أسرة فقدت عائلها، أو كل أستاذٍ كهل أنهكته الأمراض المزمنة ولم يعد قادرًا على النزول من سريره ليذهب إلى المدرج لتعويض ضعف المعاش، الذي لا يكفي حتى لدفع فواتير الكهرباء أو شراء الأدوية؟!
"الكل مقصر..."
سامحنا، يا أستاذنا العزيز، ويا زميلنا الراحل، ويا تلميذنا الذي اختطفه الموت وهو في مقتبل عمره الأكاديمي، ويا كل أسرة لا تزال تعاني بسبب فقدان أو مرض عائلها الوحيد، ولم تعد قادرة على تحمل أعباء الحياة...
"يا ترى، الدور القادم على من؟"
من سيكون حديث العامة بعد رحيله؟
من سنجمع له التبرعات كي تُكمل أسرته تعليم الأبناء، أو تسدد فواتير الكهرباء والمياه والغاز، أو حتى تجد قوت يومها؟
قد أكون أنا أو أنت... لا أحد يعلم.
فالمرض وعلاجاته ومستشفياته تلتهم الأموال، ولو كانت قناطير مقنطرة. ولا أحد محصّن من الموت...!!
0 تعليق