النوستالجيا أو خبرة الحنين

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

«النوستالجيا» Nostalgia كلمة شائعة في معظم اللغات الأوروبية باعتبارها مستمدة من أصل يوناني قديم، وهي تعني في العربية «الحنين»، وبذلك فإنها تشير إلى مفهوم بالغ الاتساع وشائع أيضًا في كثير من الأدبيات الخاصة بالعلوم الإنسانية. ولذلك فإنني لا أريد أن أتطرق إلى شيء يتعلق بهذا المفهوم في إطاره النظري، وإنما أريد أن أقتصر في مقالي هذا على تناوله من حيث هو خبرة شعورية واعية، في نوع من التحليل الذي هو أقرب إلى التحليل الفينومينولوجي (الظاهراتي) للخبرات الشعورية.

أشهر ظواهر أو تجليات هذه الخبرة تتمثل في شعور «الحنين إلى الوطن»، وهذا هو المعنى الحرفي المباشر للجذر اللغوي للكلمة المركبة في أصلها اليوناني. ولكن الكلمة لها أيضًا ظلال من المعاني المرتبطة بحالة «الألم المقترنة بالحنين إلى الوطن»؛ فالحقيقة أن الشعور بالحنين هنا هو خبرة شعورية عميقة تنطوي على نوع من المعاناة المقترنة بمشاعر الافتقاد والاشتياق والتوق.

وتلك مشاعر شائعة يعرفها أكثر الناس حينما يعانون هذه الخبرة في الغربة عن الوطن. غير أن هذا الشعور يتمثل على نحو أكثر خصوصية في الحنين إلى الموطن أو الحي الذي نشأنا فيه، والحنين إلى البيت الذي نسكنه، بل إلى أركان معينة من البيت أحيانًا (ولعلنا نذكر في هذا الصدد خبرة التوق هذه حينما نتردد أحيانًا على الفنادق الفارهة التي نسكنها في بلدان بعيدة: إذ إننا نتوق أيضًا إلى فراشنا الأصلي الحميم مهما كانت رفاهية فراش الفنادق، وهو الفراش الذي لا نكاد حتى نذكره بعد أن نفارقه!). وهذا كله مما يدخل في إطار «جماليات البيت» التي تناولها جاستون باشلار في كتابه الشهير «جماليات المكان»، وفي إطار جماليات العيش أو السكن والإقامة في فلسفة هايدِجر.

ولعل هذا يذكرنا بتلك الصلة الحميمة بين هيدجر وكوخه، وهو ما جعله لا يحتمل البقاء في أرقى المناصب الأكاديمية في المدينة، ليعود إلى كوخه الحميم الكائن في «الغابة السوداء» بألمانيا: تلك البقعة من الأرض الأثيرة لديه، والتي أثرت كثيرًا في رؤيته الفلسفية للوجود والعيش. وهذا يعني ارتباط الزمان بالمكان في خبرة الحنين إلى الموطن، وهو ما يعني في النهاية ارتباط جغرافيا الأرض والمكان بالتاريخ؛ فالجغرافيا لا يمكنها فهم الأرض أو المكان بشكل مجرد من أساليب العيش فيه).

***

السؤال الذي ربما يطرأ على الأذهان الآن، هو: هل يمكن التماس هذه الخبرة أيضًا في عوالم لا إنسانية أخرى من قبيل عالم الحيوان على سبيل المثال. يمكننا أن نتعرف على ذلك من خلال الخبرة أيضًا، أعني إذا كانت لدينا خبرة أو مشاهدات حية ما لعالم الحيوان. يمكننا أن نلاحظ من خلال مشاهداتنا لسلوك الحيوانات في هذا الصدد، ومن خلال ما نقرؤه عن مَلَكاتها الإدراكية، أن هذه الخبرة لا تُوجد إلا لدى الحيوانات العليا، أعني تلك الحيوانات التي يكون لديها قدرة ما على الإدراك والشعور والحياة الاجتماعية.

ونحن نلاحظ ذلك في حالة الشمبانزي على سبيل المثال حينما نشاهد سلوكياته في حدائق الحيوان، حيث نجده غالبًا متأملًا حزينًا وكأنه يتوق إلى موطنه الأصلي الذي كان ينعم فيه بالحرية والدفء العائلي. كما أننا نلاحظ ذلك أيضًا في سلوك بعض الكلاب الأصيلة؛ ولذلك يعرف مَن قاموا بتربية بعض من نوعية هذه الكلاب أنها لديها الذاكرة والشعور؛ وبالتالي فإنها لديها وعيًا ما بالزمان والمكان، ولنقل على نحو «بالمكان الزماني»، أعني «بالمكان الأليف».

وربما يزيد قائل علينا بقوله: بل إننا يمكن أن نلاحظ ذلك أيضًا خارج عالم الحيوان، كما في عالم الأسماك. أفلا نلاحظ ذلك- على سبيل المثال- في هجرة أسماك السالمون أو عودتها إلى موطن نشأتها، بأن تقطع آلاف الأميال عبر المحيط لكي تصل إلى الأنهار الدافئة التي يمكن أن تتوالد فيها قبل أن تجوب المحيط من جديد؟!

لكن السؤال الذي يبقى بعدئذ أكثر أهمية وإلحاحًا، هو: ما الفرق بين الإنسان والحيوان هنا، أعني فيما يتعلق بخبرة الحنين؟ الحقيقة أنه على الرغم من كل ما ذكرناه من وشائج قربى في الحالتين، باعتبار أن بعض الحيوان ليس عاريًا عن الإدراك، ومن ثم عن شكل ما من أشكال الوعي- على الرغم من ذلك، فإن هناك فرقًا كبيرًا بين الحالتين: لأن الحنين في حالة الحيوان يكون مرتبطًا بالحنين إلى المكان أو الأشخاص الذين ارتبطوا في ذهنه بالمكان الذي كان يفي بالوفاء بحاجاته الفسيولوجية وبغريزته وبأمنه في البقاء.

ويتضاءل هذا الارتباط بالمكان كلما هبطنا في سلم الموجودات الحية، بحيث يتحول هذا الارتباط إلى نوع من الارتباط الغريزي بالمكان الذي يمكن من خلاله حفظ النوع واستمراره، وهذا ما نجده في هجرات بعض الحيوانات والطيور والأسماك إلى أماكن معينة في أوقات معينة من السنة معلومة لديها.

لا شك في أن التحليل الوارد في هذا المقال يعلِّمنا ألا نقلل من شأن الحيوان كما لو كان عاريًا عن أية مشاعر وعواطف وإدراك. ومع ذلك، فإننا ينبغي أن نعترف في الوقت نفسه بأن خبرة الحنين تظل «خبرة زمانية واعية» في عالم الإنسان وحده، أعني خبرة تظل ماثلة في الوعي الإنساني باعتبارها خبرة وجودية قد يعايشها في حاضره، ويمكن أن يستدعيها لتأمله في أزمنة وأمكنة مختلفة. وهذا هو فحوى تأويلي لظاهرة أو خبرة الحنين.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق