في الثالث من شهر مارس الحالي، قرر الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب» وقف كل المساعدات العسكرية الأمريكية الممنوحة لأوكرانيا، ومن الواضح أن هذا القرار جاء بعد الكثير من الجدال المحتدم بين «ترامب» ونائبه «جيه دي فانس» والرئيس الأوكراني «فولوديمير زيلينسكي» في البيت الأبيض.
ونتيجة للموقف الأمريكي، اتخذ زعماء الاتحاد الأوروبي قرارًا بإعادة التسليح الأوروبي عن طريق جمع 800 مليار يورو، ما يقدر بـ 867 مليار دولار أمريكي، لصبها في الإنفاق على منظومة الدفاع.
وفي محاولة تطبيق هذا القرار، قام 26 زعيمًا من زعماء الاتحاد الأوروبي - باستثناء المجر - بالتوقيع على اتفاق يفيد بأن السلام في أوكرانيا يجب أن يكون مقرونًا بضمانات أمنية قوية وموثوقة.
كما اتفق الزعماء على أن الاتفاقيات والمفاوضات بشأن أوكرانيا لا يمكن أن تتم دون مشاركة أوكرانيا فيها، كما تم الاتفاق على أن الاتحاد الأوروبي سيواصل التزامه بتقديم الدعم العسكري وغير العسكري بشكل منتظم لأوكرانيا.
وفي تلك الأثناء، أعلنت المملكة المتحدة تعهدها بتقديم أكبر زيادة في الدعم منذ بداية الحرب الباردة، إذ يبدو أن الانسحاب الأمريكي عن دعم أوكرانيا يهدد الاتحاد الأوروبي بأكمله، لذلك يهدف الاتحاد إلى صناعة جبهة موحدة مبنية على إنشاء دفاعات قوية وردع أي هجوم مباشر على دوله.
ورغم ذلك، لن يؤدي الإنفاق الكبير من الاتحاد الأوروبي إلى منح أوكرانيا فرصة الانتصار العسكري على روسيا، صحيح أن أوروبا قد كثفت تمويلها لأوكرانيا، إلا أن هذا لا يكفي لكي تتمكن أوكرانيا من هزيمة القوات الروسية التي تسيطر في الوقت الحالي على ما يعادل 20% من أراضيها.
كما أن الانسحاب الأمريكي من الحرب الروسية الأوكرانية من شأنه أن يشكل ضغطًا شديدًا على الأخيرة ويعرقل قدرتها على مواصلة القتال ضد القوات الروسية، لكنه من المتوقع جدًا أن تبحث أوكرانيا عن وسيلة لتجميد الصراع هذا العام، ومن وسائل ذلك اللجوء إلى هدنة مؤقتة إلى جانب عدم التنازل عن أراضيها للجانب الروسي.
هناك اختلاف شاسع بين النهج الأمريكي ونهج الاتحاد الأوروبي، وهذا الاختلاف طارئ وقد حدث في عهد ترامب، حيث الانقسام الأيديولوجي العميق.
وعلى الرغم من أن إدارة ترامب اتخذت مواقف سريعة وحازمة في العديد من الشؤون الخارجية، وذلك ما لم يتوقعه الكثير من المحللين، إلا أن نهجها مع أوكرانيا غير مفاجئ، فمنذ أن فاز ترامب في الانتخابات الأمريكية في نوفمبر الماضي، كان الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا مدركين أن ذلك يعني تحولًا وشيكًا في السياسة الأمريكية.
فما يتخذه ترامب من قرارات بشأن أوكرانيا لا يتعلق فقط بالمخاوف الاقتصادية، بل يتعلق كذلك بما سوف يحدثه الموقف الأمريكي من صدام وتباين بين وجهات النظر العالمية، وهنا يتضح أن ترامب يتعامل وفق منهج «سياسات القوى العظمى» في إدارته للشؤون العالمية.
ويقوم نهج «سياسات القوى العظمى» على فرضية أننا نعيش في عالم تنافسي، تسعى الدول فيه إلى مضاعفة مكاسبها وتوسيع سيطرتها، ويمكن تحقيق ذلك من خلال العقوبات أو المكافآت، بمعنى أن الدول التي تتمتع بقوة عسكرية كبيرة واقتصاد قوي ستحظى بأهمية كبيرة، وتلك الدول من الممكن أن تفرض سيطرتها على الدول الضعيفة. وقد شكلت وجهة النظر هذه النواة الأولى لمعظم النشاطات الاستعمارية في القرنين التاسع عشر والعشرين.
هذا النهج يضع في حسابه قيام الصراعات عالميًا، كما يضع في حسابه «انتصار» الدول الأقوى، لذلك يرى ترامب أن روسيا قوة إقليمية لديها الحق في «فرض نفوذها» على البلدان الأصغر التي تجاورها. بالتالي، يعتبر قرار ترامب تجاه الحرب الروسية الأوكرانية ليس قرارًا استثنائيًا، ولا عفويًا، ولا مؤقتًا، إنما قرار يضع في الاعتبار أن روسيا سوف تسيطر على الدول الواقعة ضمن نطاق نفوذها.
وبشكل مغاير تماما لهذه الرؤية، يقوم الاتحاد الأوروبي على مبدأ التعاون والعمل المشترك لتحقيق مكاسب متبادلة من خلال الحوار والتوافق، هذا النهج هو الأساس الذي قامت عليه المؤسسات المعروفة باسم مؤسسات «بريتون وودز» التي تأسست بعد الحرب العالمية الثانية.
وهذه النظرة للعالم تفترض التعاون بدلًا من الصراع، حيث يمكن الوصول إلى حلول تعاونية تحقق المصالح المشتركة عبر الحوار والتفاوض.
ووفقًا لهذا المنظور، فإن الغزو الروسي لأوكرانيا لا يتعلق فقط بالنفوذ الإقليمي، بل يُنظر إليه على أنه صراع بين قيم الديمقراطية الليبرالية ونظام استبدادي قمعي.
وقد كرر الرئيس الأوكراني «فولوديمير زيلينسكي» هذا الطرح عدة مرات، مؤكدًا أن الصراع يدور حول مواجهة بين الحرية والديمقراطية من جهة، والاستبداد والسيطرة من جهة أخرى.
منذ تولي ترامب فترة رئاسته الثانية، حرص الزعماء الأوروبيون على تقديم جبهة موحدة، واضعين في الاعتبار الواقع الجديد الذي لا يمكنهم فيه الاعتماد على الدعم العسكري الأمريكي بشكل مضمون ودائم.
ومع ذلك، لا تزال هناك انقسامات داخل الدول الأوروبية نفسها. فقد شهدت السنوات الأخيرة تصاعدًا في المشاعر المناهضة للاتحاد الأوروبي داخل بعض الدول الأعضاء، وكان انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي أحد أبرز الأمثلة على ذلك.
وفي السابق، سعى القادة الأوروبيون إلى التعاون مع روسيا، لكن هذه الاستراتيجية لم تحقق نجاحًا يذكر. فعقب ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014، تدخلت فرنسا وألمانيا للمساعدة في التوسط في اتفاقيات «مينسك»، التي وُقعت في عامي 2014 و2015، وكان الهدف منها منع المزيد من التوغل الروسي في الأراضي الأوكرانية ذات السيادة.
لكن هذه الجهود لم تمنع الغزو الروسي واسع النطاق لأوكرانيا عام 2022.
وفي ظل النظام العالمي الجديد الناشئ، قد يكون الاعتماد على القوة العسكرية أو التعاون الدبلوماسي وحده غير كافٍ. يبدو أن القيادة في المستقبل ستتطلب الجمع بين النهجين، حيث ينبغي على القادة دمج استراتيجيات القوة والتعاون معًا لتحقيق التوازن في مواجهة التحديات العالمية.
جيسيكا جيناور محاضرة أولى في العلاقات الدولية بجامعة «فليندرز»
عن آسيا تايمز
0 تعليق