هل تقبل الحكومة النقد؟

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

مصطلح «الحكومة» ليس جديدا؛ فبدأ استخدامه في زمن الحضارات القديمة ومنها الحضارة الفرعونية والبابلية. يُقصَد بالحكومة هو الجهاز الإداري الذي يدير شؤون الدولة عن طريق سن القوانين والتشريعات ووضع الأنظمة التي تحفظ لهم المرتكزات الأمنية والاجتماعية والاقتصادية. تطور مفهوم إدارة الدولة -عن طريق الحكومة- بمراحل مختلفة حتى العصر الحالي المتمثل في المشاركة الشعبية بين أفراد المجتمع والحكومة في إدارة شؤون الدولة. هذه المشاركة تختلف من دولة إلى أخرى حسب نظام الحكم. تلك المشاركة الشعبية تتجلى بعض صورها في الشورى التي لا تخلو غالبا من انتقادات للحكومة من أعضاء المجلس المنتخبين الذين يمثلون أفراد المجتمع. الهدف من ذلك النقد هو إعلاء المصلحة العامة في إرساء دعائم العدالة والحكم الرشيد بين أفراد المجتمع.

كما أن العلاقة بين أفراد المجتمع والحكومة غالبا ما يسودها التعاون والمسؤولية الجماعية إلا أن النقد يأتي في أحيان كثيرة من أجل تبادل الأفكار والرؤى التي تخدم السياسات العامة. من خلال تجربتي في كتابة المقالات في الصحف العمانية والتي بدأت قبل ما يزيد على عشرين عاما وحتى الآن في كتابة ما يزيد على (200) مقال أغلبها بسردية نقدية -هناك من الأهل من كان ينصحني بالتخفيف- ولكن لم أتعرّض لأي مضايقات من أي جهة كانت، بل العكس إذ توافقت بعض تلك المقالات مع التوجهات الحكومية. النقد لا يقتصر فضاؤه بين الأفراد أو الحكومة في حدود جغرافية الدولة، بل قد يأخذ الإجماع الدولي. ولعل أقرب مثال ما طرحه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لخطته بتهجير سكان قطاع غزة إلى البلدان العربية، تلك الخطة لاقت نقدا دوليا من الدول العربية وغير العربية حتى تكاد تصبح في طي النسيان.

تشرفت بحضور ملتقى «معا نتقدم» في نسخته الثالثة والذي يأتي تحت إشراف الأمانة العامة لمجلس الوزراء، هذا الملتقى شارك به الآلاف من كافة أطياف وشرائح المجتمع يمثلون جميع المحافظات، حيث تفاعل أفراد المجتمع في طرح الأسئلة والمداخلات الموجهة لمسؤولي الحكومة بطريقة لم أكن أتوقع درجة الشفافية والنقد البنّاء التي اتسمت بها، الأمر الذي يعكس روح المواطنة بين أفراد المجتمع ومسؤولي الحكومة في التطلع لمستقبل أفضل من خلال فضاءات الحوار المفتوح.

هذا الملتقى حسب تقديريهو لتقييم العلاقة بين أفراد المجتمع والحكومة وقد يكون استفادت منه الحكومة أكثر مما يُناقَش في جلسات مجلس الشورى؛ لأن الطرح يأتي من أفراد المجتمع بمختلف أطيافهم إلى مسؤولي الحكومة بشكل مباشر. وبالتالي، مع الزخم الكبير والاهتمام بهذا الملتقى أتوقع من خلال الأسئلة المطروحة والنقاشات أنه سوف تصدر عنها قرارات أو إعادة نظر في المسائل التي تقلق أفراد المجتمع.

مَن قال بأن الحكومة لا تحب النقد؟ فكما أنت أيها الناقد أو المواطن تتطلع إلى خدمات مجتمعية ذات جودة وبمواصفات تلبي احتياجاتك المعيشية فتأكد أن حتى مسؤولي الحكومة يريدون ذلك فعندما يفتح المجال للنقاش فالأمل أن يكون غايته تحقيق الصالح العام ومستندا إلى أدلة مقنعة ومقبولة ولا يكون نقدا هجوميا هدفه التقليل من العمل الجريء والجاد الذي تقوم به الحكومة. وتأكد عندما يكون نقدا وجيها يخص قطاعا أو خدمة حكومية فإن الوحدات الحكومية سوف تقوم بتقييم ما يطرح إيفاء بدور تلك الوحدات في تقديم ما هو أفضل للمواطن. في المقابل لا يفهم من النقد بأنه موجه للأفراد بصفاتهم الشخصية وإنما نقد للخطط والبرامج والمبادرات الحكومية في أن البعض منها لم تواكب آمال وتطلعات أفراد المجتمع.

كما أن النقد قد لا يأتي من أفراد المجتمع ولكن أيضا من أعضاء الحكومة لأنهم جزء من أفراد المجتمع. على سبيل المثال أثناء ملتقى «معا نتقدم» أبدى أحد الوزراء ملاحظات على برنامج التوازن المالي بأنه لم يسهم في إيجاد وظائف جديدة للمواطنين، وإنْ كان حقق أهدافه الاقتصادية في المحافظة على الدَّين العام الحكومي، كما كانت هناك ملاحظات من أحد مسؤولي الحكومة على نوعية الوظائف التي يشغلها العمانيون وأن الاقتصاد الوطني قادر على استيعاب الأعداد المتزايدة من الباحثين عن العمل بوظائف جيدة. هذا التناغم في النقاش بين أعضاء الحكومة بعضهم البعض يعطى أبعادا جوهرية مهمة في أن باب النقد مفتوح طالما أنه يقصد به تحقيق المصلحة الوطنية التي يتطلع لها أفراد المجتمع.

الحكومة تقبل النقد بإطلاق منصة «تجاوب» التي يستطيع من خلالها أفراد المجتمع تقديم المقترحات والشكاوى والبلاغات وأيضا الاستفسارات العامة. المنصة التي تم تدشينها أثناء ملتقى «معا نتقدم» استقبلت ما يزيد على ستة آلاف طلب في مدة وجيزة جدا. هذا العدد يعكس التفاعل بين أفراد المجتمع ومسؤولي الحكومية الذي يكاد يحدث «للمرة الأولى» منذ النهضة المتجددة التي يقودها جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- والذي أرسى دعائم المشاركة المجتمعية. المنصة ليس مخططا لها أن تكون بديلا عن مسارات إنجاز المعاملات الحكومية في وضعها الحالي وإنما هي لتسهيل وتيسير تلك المعاملات والخدمات الحكومية.

الحكومة تقبل النقد فتلك المنصة ليست مخصصة للمواطنين فقط فهي تشمل المقيمين؛ فهناك كفاءات غير عمانية تعيش في البلاد ينبغي أن يُفتَح لها الباب للمشاركة في الطرح والنقد البنّاء والاستماع إلى آرائهم في التواصل مع الوحدات الحكومية وإبداء ملاحظاتهم. وبالتالي، منحهم الوصول للمنصة يؤكد بأن هناك رغبة حقيقية من الحكومة على تقبل الرأي والنقد من الجميع بغض النظر عن جنسياتهم، كما أنه في أحيان كثيرة تزور سلطنة عمان أعداد من السياح وتكون لديهم مقترحات خلال مدة إقامتهم وبالتالي، المنصة تفتح لهم إمكانية التواصل مع الوحدات الحكومية باللغة العربية والإنجليزية. عليه، لا عذر اليوم للذين يقولون بأن الحكومة لا تقبل النقد.

توجيه الانتقاد للمسؤولين في الحكومة حسب القنوات المتعارف عليها ليس ممنوعا إلا أن هؤلاء المسؤولين ليس لديهم صفات استثنائية وإنما هم من أفراد المجتمع تم تكليفهم بتلك الوظائف. ولكن قد تكون لديهم مساحة أكبر -بحكم وظائفهم- للإيفاء بالتطلعات والآمال الكبيرة التي ينتظرها منهم أفراد المجتمع. فإن هم أصابوا في تحقيق ما يوكل إليهم من أعمال كان ذلك حسنا وإن بدر منهم نوع من الخطأ أو التقصير في ممارسة صلاحياتهم فهم ليسوا معصومين من ارتكاب الأخطاء، ففي النهاية هم بشر لا يملكون حلولا سحرية لمسايرة جميع تلك التطلعات، ومع درجات النقد التي قد يتعرّضون لها فهُم أيضا يعتبرون من موظفي الدولة يخضعون للمتابعة والتقييم كلا حسب مستوى منصبه ووظيفته العامة.

نعم الحكومة تقبل النقد؛ لأن النقد موجود في جميع المجتمعات الإنسانية والهدف منه المشاركة المجتمعة في تبادل الآراء والحوار الصريح من أجل تحسين الحياة الاجتماعية والاقتصادية لأفراد المجتمع. عندما يتم إرساء مقومات النقد البنّاء فإنه يسهم في بناء علاقة أكثر شفافية بين أفراد المجتمع والحكومة، مما تكون معه الحكومة أكثر قابلية على تلبية قضايا واحتياجات المواطنين التي تتوافق مع تطلعاتهم الحالية والمستقبلية.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق