كان يا مكان في قديم الزمان، نساء يغسلن في الفلج، فيما تربض في الماء أنثى ضفدع ببطن كبير على وشك أن تبيض. قالت إحدى النساء موجهة كلامها للضفدع: «خبريني لما يجي وقت الولادة عشان أجيك». بعد أيام، وفي عز إحدى ليالي القيض يطرق باب المرأة طارق. يسأل الطارق إن كانت هي القابلة، ويخبرها أن زوجته على وشك أن تلد. يأخذها الزوج إلى قصر مهيب. حين دخلت على الأميرة التي توشك على أن تلد، سُعدت الأميرة بأنها لبت النداء، وأنها كانت عند وعدها بالتواجد عندما يحين وقت الولادة. الأميرة هي تلك الضفدعة إذن! قامت القابلة بواجبها، واطمأنت على الأم ووليدها، وعندما نوت العودة لبيتها، سلّمها الزوج هدية بسيطة لقاء عنائها، وناولها وهو يشكرها قفيرًا من الليف والكرب. عادت المرأة غاضبة للبيت، إذ كيف يُكافئها هؤلاء الأثرياء بهذه المخلّفات عديمة القيمة. رمتها في الصالة، وذهبت للنوم. عندما أفاقت كان الليف حريرًا، وكان الكرب سبائك من ذهب.
هذه واحدة من القصص التي كانت تحكيها الوالدة، أو هكذا أتذكرها. وأسأل، ما العبرة من القصة؟
فكرة أن للقصص وظيفة، وأن أبطالها يقدّمون عبرة أخلاقية هي فكرة طارئة على قصص التراث الشعبي. القصة أعلاه تؤدي وظيفتها باعتبارها قطعة ترفيهية. صحيح أن لها ثيمات تتعلق بالعدالة الاجتماعية: استهجان البطلة للمقابل التافه لعملها النبيل، خصوصًا ممن هم أفضل حالًا. تُثمن هذه الحكاية مساعدة الغير (مثلما تثمن حكايات شعبية قيم الصدق أو الضيافة) لكنها لا تحولها إلى صراع النحن مقابل الهم، ولا تحمل اتفاقًا على الفعل الخير والشرير. لا أقول إن هذا جيد، كما لا أقول إنه سيئ. أقول ببساطة إن هذا ما كانت القصة تمثله: أفراد يتفاعلون مع بعضهم في استجابة لأحداث تجري. هذه القصة لا تخلو من العبرة الأخلاقية فحسب بل وتفتقر إلى منطق أو فيزياء متسقة. الضفدع تتحول لأميرة في الليل، بمعنى أن اللعنة تنفك في المساء، لتعود الأشياء إلى ما هي عليه في الحقيقة. لكنها أيضًا تنفك في الصباح، إذ يتحول الليف والكرب إلى حقيقته، إلى حرير وذهب، في تعارض منطقي.
لعل الحاجة لخلق منطق وفيزياء وقواعد ثابتة لقصص الخيال قادمة من دخولنا عصر العلم، وتسرب مفاهيم الخيال العلمي إلى غيرها من أنواع الأعمال الخيالية. ثمة أيضًا تشديد على أن الترفيه يجب أن يكون -في الوقت نفسه- نافعًا. أن يُعلمنا شيئًا. هذا ما يخطر بالبال على نحو بديهي، لكن المراجعة التاريخية لكيف أعيدت كتابة الحكايات الشعبية في العقود الأخيرة تكشف لنا أن الأمر أعقد.
تُلاحظ كاثرين نيكولز (Catherine Nichols) أن الثقافة الشعبية اليوم مهووسة بالصراع بين الخير والشر، على عكس الحكايات الشعبية الأصلية. إن الحكايات، الأفلام، الكومكس اليوم، تحكي لنا عن مجموعة من الأخيار، يقاتلون الأشرار لأجل الصالح الأعلى للمجتمع الخيّر. ثور مثلا وفق الميثولوجيا هو إله يمتلك القوى الخارقة التي ولِد بها، أو تحصل عليها اعتباطًا. مارفلز أعادت تقديمه لتكون السلطة التي يحظى بها مستحقة: إنه يمتلك القوة لكفاءته. وهو يوظفها لصالح فريقه من الأخيار، لتحقيق العدالة الاجتماعية أو سلام ورفاه مجموعته.
تقول نيكولز: «الدفاع عن منظومة القيم هو مركزي للحبكات الحديثة، للحد الذي يُعاد فيه تشكيل القصة من أجل اختراع قيم للأبطال.. الذين كانت لهم شخصية، عوض أن يكون لهم توجه أخلاقي ثابت»، وتربط بذكاء بين هذا التحول في طبيعة الحكايات ونشوء القوميات الحديثة، وكيف أن ما يبدو أنه صراع بين الخير والشر، لا يمثل في الحقيقة رؤية أخلاقية، وإنما رؤية سياسية: الجانب الآخر من الصراع له منظومة قيم بديلة يُدافعون عنها. إن الصراع ليس على الثروة، أو الفوز بالحسناء، وإنما انتصار قيم الخير، التي يؤمن بها ويدافع عنها الخيّرون. هذه الاستعارة مثالية للتجنيد، لنزع الأنسنة عن الآخر، وتأطير الصراعات البشرية كصراعات على القيم التي يجب أن تسود.
إننا متأثرون بهذا المنطق للحد الذي كنتُ فيه -وأنا أسمع القصة من والدتي- أشعر بأنها ليست محبوكة، أنها غريبة (كما يجدر بالخيال أن يكون)، وكان هذا يتزامن -على نحو ساخر- مع نفور من الوعظ في القصص والكرتون. وكأن عقولنا مُدرّبة على البحث عن مغزى، حتى حيث لا يوجد.
نوف السعيدية كاتبة وباحثة عمانية في مجال فلسفة العلوم
0 تعليق