من حفرة السؤال السوري

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

«أختي في جبال العلويين، هلع أنْ يكسر بابك في الليل وحش ضاحك لا يحبُّ من أسماء الله إلا المنتقم»، كتب الشاعر السوري جولان حاجي.

ترددتُ طويلًا في الكتابة عن الشأن السوري بعد تلك الليلة (المريبة) التي خلعتْ فيها جدرانُ دمشق صورةَ الزعيم التاسع عشر في تاريخها منذ الاستقلال، وأعلنتْ نهاية «الأبد»... إلى الأبد؟! الحيرة المتلعثمة بين البشرى والحذر أفضتْ بي إلى قناعة مؤقتة بأن أفضل ما يمكن أن نمنحه للسوريين، نحن الواقفين خارج إطار معاناتهم، هو صمتنا الذي لا نمن به على أحد.

ربما هي المرة الأولى التي لا يكون فيها الصمت عبئًا على الضمير، بل على العكس. فلندع أصدقاءنا السوريين يجربون لحظتهم التاريخية الجديدة وحدهم، كما كانوا وحدهم دائمًا، وأن نكفَّ عن الاعتقاد -كما يحدث كل مرة- بأننا مدعوون للمشاركة بتعليقاتنا وآرائنا في حفلة التنظير على رؤوس الضحايا/ الناجين. يكفي الانتظار على حدود الصمت حتى انقشاع الضباب عن المشهد لنعرف هوية سوريا الجديدة، سوريا ما بعد الثامن من ديسمبر ٢٠٢٤.

لكن الانتظار لم يدم طويلًا حتى شهدنا الجريمة المروعة التي لحقت بالمدنيين في الساحل خلال الأيام الماضية، الجريمة التي أعادت توزيع الملف السوري من جديد على مائدة الرأي العام العربي، ليس من أجل تقديم الإدانة الأخلاقية ضد المجزرة ومرتكبيها من العصابات التكفيرية فقط، ولا من أجل إعلان التعاطف البارد مع ضحاياها فحسب، بل لتأكيد ما أكدته طبيعة المجزرة ودوافعها وحمولاتها بأن سوريا لا تزال منذ مارس 2011 امتحانًا عربيًا لا مفرَّ منه.

نكتب ونفكر بسوريا لأن معنى وجودنا واستمرارنا عربًا في التاريخ عالق في حفرة السؤال السوري، في هذا «الفوات الحضاري» الطويل. يكفي أن نحلل المعجم الطائفي العفن الذي تلفظ به القتلة مصورين جريمتهم لندرك في أي درك حضاري يقع العرب اليوم، ولندرك أن «الدعشنة» ليست مجرد ظاهرة إرهابية في شكل فصيل مسلَّح، بل أيديولوجيا كامنة تحت الجلد وخلف اللغة، وتظهر تجلياتها بوضوح في العنف اللغوي الذي يصبغ صفحات الكلام على مواقع التواصل الاجتماعي.

مذبحة العلويين المصورة في الساحل السوري، قبل أيام من إعلان الدستور، أدخلت المشهد الكارثي في تعقيد سياسي واجتماعي مضاعف، إذ لم يكد حجر المأساة السورية يجف حتى سُفك فوقه دم جديد باسم الله وتحت صيحات «الله أكبر».

سؤال فلسفي قديم ويتجدد: من أين يأتي كل هذا العنف الشبِق؟ وكيف يصبح الغباء طاقة شريرةً إلى هذا الحد؟ إنه سؤال لا يخص السوريين وحدهم في هذه المرحلة، لكنه يجعل من تاريخهم المعاصر منجمًا مثيرًا لدراسات العنف وأصوله، حتى لو بدا من السهل تفسير ذلك المنزع الانتقامي تفسيرًا نفسيًا كتعبير عن «ميول عدوانية مقموعة».

خلال السنوات الأخيرة شهد السوريون في بلادهم تقريبًا كل صنوف العنف والعسف وأشكال هتك السيادة التي يمكن لبلد ما أن يتعرض لها في تاريخه: استبداد سياسي دموي بنزعة إبادية سرعان ما حوَّل الثورة عليه إلى حرب أهلية تسللت إليها جماعات سلفية جهادية وعززتها تدخلات أجنبية حولت بدورها الجغرافيا السورية إلى ساحة صراع دولي وإقليمي مفتوح، وصولًا إلى التطور الأخطر المتجاهل إعلاميًا، المتمثل في احتلال إسرائيلي جديد يتمدد شيئًا فشيئًا نحو عاصمتها، عاصمتها «الأموية». زلزال من العنف، أو هو الطوفان في بلاد البعث، كما تنبأ به المخرج السوري الراحل عُمر أميرلاي، الطوفان الذي قلَّب تربة المجتمع السوري على مدى 14 عامًا، تاركًا صدوعًا هائلة يتطلب علاجها عقودًا من الزمن في المسار الطبيعي لأي مجتمع يتعافى.

يبقى سؤال العدالة المشفوعة بالصفح هو سؤال المرحلة الأصعب في سوريا الجديدة. حتى لو كان الصفح نفسه «معضلة وقيمة» في آن معًا كما كتب المفكر السوري ياسين الحاج صالح: «معضلة لأننا نحتاج إلى طاقة وقوة نفس لا يَسهُلُ استجماعهما كي نصفح بِرضا ودون شعور بالغبن؛ وقيمة لأنه إذا استطعنا استجماعَ طاقاتنا النفسية كي نصفح بإخلاص فإننا نُسطِّرُ مثالاً يُحتذى. القيمُ تَصنعُها الأقاصي، هي كلها أقاصٍ في واقع الأمر، مُثُلٌ عُلْيا، وليست متوسطات حسابية أو معدلات إحصائية. ولذلك القيم كلها صعبة، والصفحُ من أشدها صعوبة».

الحقيقة أن ياسين الحاج صالح، هذا المثقف المناضل الذي سرق النظام الأسدي 16 عامًا من شابه في السجن، قبل أن تختطف الحرب منه زوجته سميرة وأصدقاءه رزان ووائل وناظم، الذين يكتب عنهم ولهم باستمرار، يجسد في تجربته الشخصية مثالًا يُحتذى لمعنى الصفح كقيمة قصوى مناقضة تمامًا لمبدأ الثأر، بما يجعل من ذاكرة الظلم والقهر فضيلةً تحمي ضحية الأمس من إغراء الانتقام الذي قد يجعل من السجين تلميذًا آخر للسجان.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق