د. بدرية بنت علي الشعيبية
عاش جميل بن خميس بن لافي بن خلفان السعدي في قرية القرط بولاية المصنعة، وولد في العقد الثاني من القرن الثالث عشر الهجري، تلقى علومه الدينية والعربية في المصنعة. عاصر الشيخ جاعد بن خميس الخروصي، ومهنا بن خلفان بن محمد البوسعيدي، وناصر بن جاعد الخروصي، وخميس بن راشد العبري، وكانت له مراسلات ومباحثات مع العلامة سعيد بن خلفان الخليلي والشيخ حمد بن خميس السعدي.
عقد الشيخ جميل بن خميس السعدي العزم منذ بداية شبابه على أن تكون حياته مسخرة لطلب العلم وخدمته، فعكف على دراسة كتب الفقه والعقيدة الإسلامية ودراسة اللغة العربية والعلوم المتعلقة بها.
و حرص أن يكون له أثر في خدمة وطنه من خلال نشره للعلم الذي حواه في صدره فأنشأ مدرسة فقهيه لغوية، لإثراء الحركة العلمية في عمان وتنشيط حركة التأليف. والتحق بمدرسته الكثير من الطلاب من جميع ربوع عمان. وتحلقوا حوله لينهلوا من فيض معرفته وعلومه. واعتمد السعدي في تعليم طلابه على أسلوب كان قائما في تلك الفترة حيث يركز على كتاب معين ليكون منهج يسير عليه في خطته التدريسية، فيقرأ من هذا الكتاب على طلابه كل يوم جزء منه ثم يقوم بشرح ما قرأه وتقديم إضافات علمية وشروحات من كتب أخرى. وقع اختيار السعدي على كتاب بيان الشرع لمحمد بن إبراهيم الكندي في تدرسيه لطلابه، حيث يقرأ لهم أحيانا، وفي أحيانا أخرى يطلب منهم القراءة، ثم يضيف إضافات من الكتب الفقهية الأخرى، ويوضح لهم ما يستصعب عليهم فهمه. وشرح لطلابه أرجوزة دلالة الحيران لمؤلفها سالم بن سعيد الصايغي، التي أعاد ترتيبها وجعلها في ثلاثة وستون بابا أولها باب في طلب العلم وآخرها باب أحكام الإمامة.
قرر الشيخ السعدي أن تقييد العلم وكتابته أفضل لحفظه ولتنتفع به الأجيال اللاحقة، فكتب موسوعة فقهية تضم جميع أبواب الفقه وعنون هذه الموسوعة ب"قاموس الشريعة الحاوي طرقها الوسيعة" يقع هذا القاموس في تسعين جزء لذا يعد هذا الكتاب الفقهي أضخم كتاب عماني. وبدأ في كتابته في عام 1256مـ/ 1840م،و اعتمد السعدي في كتابة هذا السفر الضخم على عدد من المصادر أبرزها كتاب بيان الشرع لمحمد بن إبراهيم الكندي والمصنف لأحمد بن عبدالله الكندي، وجامع ابن جعفر وغيرها من الكتب الفقهية.
وسار السعدي على نهج الشيخ محمد بن إبراهيم الكندي صاحب كتاب بيان الشرع في تأليف كتابه من حيث أنه قسم الكتاب إلى أبواب وقسم الباب إلى فصول ومسائل. واعتمد السعدي نفس الأسلوب الذي اتبعه في تدريس طلابه فنقل من بيان الشرع ما يحتاج إليه من المادة العلمية ثم يطعم هذه المادة ويضيف إليها من مؤلفات أخرى ككتاب الجامع لمحمد بن جعفر الإزكوي، وكتاب الضياء لسلمة بن مسلم العوتبي، ومؤلفات محمد بن عبدالله السليمي المعروف بابن بركة، ومؤلفات محمد بن سعيد الكدمي ، ومنهج الطالبين وبلاغ الراغبين لخميس بن سعيد الشقصي، واعتمد السعدي على مؤلفات غير عمانية مثل كتاب العدل والإنصاف للورجلاني، وكتاب الأشراف لمحمد بن إبراهيم النيسابوري.
حظي كتاب قاموس الشريعة الحاوي طرقها الوسيعة عناية الباحثين والعلماء، فاعتنوا به دراسة وبحثا لما يحويه من علم غزير ومعارف شاملة، قال عنه أبو إسحاق اطفيش:" قاموس الشريعة هو أكبر كتاب في الفقه ظهر لآن إذ يبلغ تسعين جزءا مستقل كل منها، وقد وقفت عليه كله من خزانة قطب الأئمة، فقد استطاع مؤلفه أن يحشر فيه كل أبواب الفقه والأصول والآداب الشرعة وما إليها، ويوجد منه أجزاء في دار الكتب المصرية بالقاهرة". أما الشيخ سالم بن حمود بن شامس السيابي في كتابه إسعاف الأعيان في أنساب اهل عمان قال واصفا كتاب قاموس الشريعة، قال:" ومنهم شيخ العلم الجليل صاحب الاعتناء الواسع والاطلاع الجامع، والهمة البارزة: جميل بن خميس بن لافي صاحب قاموس الشريعة، وهو تسعون مجلدا، كل مجلد جامع ضخم، كله فقه وأدب وتشريع وحوار وجدل، وأنه لأشبه بدائرة معارف علمية بجميع ما يشمله اسم العلم، في فنون عدة لا مقام لذكر تراجمها وحسب المطلع على هذا الكتاب الذي لم تفته شاردة ولا واردة إلا جاء بها وافية".
بعد أن انتهى الشيخ جميل من كتابة كتابه قاموس الشريعة حرص على إعادة نسخه بنفسه، وهذه همه عالية منه فتأليف كتاب من تسعين جزء ثم إعادة نسخه أكثر من مرة مهمة شاقة جدا لا يقوم بعبئها إلا الشخص المحب للعلم، صاحب هدف سامً وهو نشر العلم بين الناس طاعة لله عز وجل طالبا الآجر والثواب منه.
تقلد الشيخ جميل السعدي منصب والي صحار وهذا المنصب من الأهمية بمكان تجعل من الشخص حريصا عليه وعلى المكانة الاجتماعية الرفيعة التي تصاحب هذا المنصب، إلا أن السعدي ترك هذا المنصب وعاد إلى المصنعة ليتفرغ لطلابه وعلمه، إدراكا منه صعوبة الجمع بين خدمة العلم وأعباء المنصب ، فقرر أن العلم أولى من المناصب وأن خدمة العلم و طلابه أشرف عنده من أي منصب.
عاش جميل السعدي حياة غنية بالعطاء المعرفي، عاش حياة محبه للعلم والكتب، ومما قاله السعدي في محبته لكتاب بيان الشرع ما كتبه في مقدمة كتابه حيث كتب:" فاعتمدت إلى ربي، وتناولت قصارى حبي كتاب بيان الشرع الجامع للأصل والفرع". وفي موضع آخر قال:
أنيسي كتابي في الزمان المبتلي أنيسي جليسي فوق صهوة محفلي
كليمي ومنهاجي وسراجي وذروتي بحب بيان الشرع لا شك مبتلي
تلادي وأعضادي وصحبي بغربتي وعن حبه أمسيت لم أتعذل
أسامره والليل فل نجومه ونجم بيان الشرع ليس بآفل
فما خاب طلاب لديه نعم ولا يوفق قاليه كبير المحفل
انتقل الشيخ جميل بن خميس السعدي إلى جوار ربه في عام 1278م/ 1862م ، ويعد رحمه الله من العلماء الخالدين الذين سيخلدهم التاريخ لإنجازهم العلمي الرصين، واجتهادهم في طلب العلم ونشره.
0 تعليق