النفعية .. توغلات الوفرة والندرة

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

لا تخرج المسألة هنا في هذه المناقشة عن الحديث بين علاقتين متضادتين في الدلالة والمفهوم والتطبيق والنتائج؛ علاقة الوفرة والندرة: الوفرة المادية، والندرة المعنوية، وما يحدث من تبدلات بينهما، على الرغم من أن اللاعب الحقيقي فيها هو الإنسان، ويشار إليه هنا لخصوصيته العقلية، ولكن عند التدقيق فيها يجد أن كل الكائنات تعيش هذا الصراع، وهو صراع وجودي بلا شك، قد يسميه البعض صراعًا لأجل البقاء، ويسميه البعض الآخر صراعا لأجل التميز، وهناك من يسميه صراعا بين الخير والشر، وهناك من يسميه صراعًا بين متناقضين (الغنى والفقر/ الكرم والبخل)، وهناك من يسميه الصراع الطبقي -بين الطبقات الاجتماعية- وصراع التباينات، وصراع المختلفين، وصراع بين المادة والروح؛ وهو المحصلة الحقيقية، وعنوانه الأسمى.

ولذلك تبدو هذه الصراعات في علاقات التجاذب بين الطبقات الاجتماعية أكثر مما تظهر، ويشتد وطيسها بينها أكثر عما بين الأفراد، وذلك لسبب بسيط؛ وهو أن استحقاقات الطبقات فيما بينها تبدو أكثر وزنا عن ذات الاستحقاقات بين الأفراد، وطبعًا عندما تقاس المسألة النفعية بين الدول والحكومات، فتلك هي الأخرى قصة كبرى، حيث تسيل على إثرها الدماء، وتمتحن الإرادات، وتضرب الإنسانية في مقتل، حيث يسود مبدأ السوق القائم على الربح والخسارة، وليس غير ذلك.

في المسألة النفعية لا توجد مساحة رمادية، ولا يسمح؛ في حال تكونها؛ بنموها، ولذلك يستميت المنتصرون للمذهب النفعي استماتة الذاهب إلى الغايات، حيث ينتفي هنا مفهوم الوسيلة، وإنما تسخّر الجهود كلها لتحقيق الغاية، وليس غير ذلك؛ لأن ما يقابل المنفعة هو الخسارة، ويقينا ليس هناك عاقل يركن إلى الخسارة؛ أو يتمناها؛ في ظل تحقيق الربح، ولو كان هناك بصيص أمل صغيرة يبدو عند نهاية النفق، فالنفس محمولة على مظنة الالتحام مع ذلك الأمل الصغير، والعمل على تنميته، لتحقيق منافع أكبر، ولو بعد حين.

تذهب الفكرة أعلاه إلى الإشارة المادية الصرفة في تفكير البشر، وهي قائمة على أساس الفطرة البشرية التي تنتصر إلى المادة أكثر من انتصارها إلى الروح والتي تترجم إلى «الأخلاق البشرية» فالإنسان منذ نشأته الأولى هو محكوم بالفطرة المادية، والدليل على أن هذه الفطرة ليست مكتسبة، فلنرقب سلوك طفل مميز؛ عُرضت أمامه مجموعة ألعاب، سريعًا سينتقي أفضلها، ولو كانت هذه الألعاب لا تخصه، وإنما هي لطفل آخر، سيجنّد هذا الطفل -محل الاختبار- كل قواه المادية من صراخ، وقوة عضلية، وقد يلجأ إلى مَن يشعر أنه سوف يساعده على امتلاك ما يود امتلاكه، وحينها لا يفكر إن كانت هذه الألعاب ليست ملكه، حتى لو أجمع الجميع من كان حاضرا لإقناعه أن هذه الألعاب ليست له، وحتى لو أغري بوعود أنه سوف يُشترى له كل ما يريد وأفضل مما هو أمامه الآن فلن يقتنع وسيظل مصرًّا على رأيه حتى آخر لحظة قبل انسحاب والديه، أو أحدهما من ساحة المعركة، وستكون الدموع الغزيرة آخر ما سيريقه على أرصفة المحاولات في تلك اللحظة، وعندما يصل إلى منزل أسرته سينام نومًا عميقًا من أثر الجهد الذي بذله في تلك المعركة التي خرج منها خاسرًا.

سيعمل الكبار على ترجيح كفة «الأخلاق البشرية» في التفريق بين هوى النفس «المنفعة» وبين حكم قوة العقل القائمة على الرضا بحقيقة الأمر، وهي الحقيقة التي تفصل بين الصح والخطأ في الحصول على المنفعة، ولكن الطفل الذي لم يصل بعد بخبرة الحياة إلى هذا المستوى من التفكير، لذلك ينتصر للعاطفة، ضاربا بحيادية العقل عرض الحائط، ولذلك فالذين يلتحمون مع المذهب النفعي يعطلون نداءات العقل، بل يزيحونها جانبًا حتى تتحقق المنفعة، بعد ذلك سوف لن يكون عندهم المانع في التنظير بأهمية العقل الذي ينادي بالعدالة، والأمانة، والصدق، وإعطاء كل ذي حق حقه، فالثري -وهنا لا أعمم- لا يهمه كثيرًا مَن يتضرر على خط سيره الأفقي من جراء تحقيق مصالحه، ولو أدى ذلك إلى انتهاج سلوكيات تتجاوز القيم الإنسانية، والتشريعية، وقد تعرضه للخطر، والذي يهمه أكثر أن يكون مستوى الثروة عنده غير قابل لنزول مؤشرها ولو قليلا، وإلا دخل في حالة نفسية غير طبيعية، ولرأى الحياة من حوله صفحة سوداء، مع شعوره أنه الوحيد الواقع في مأزق الخسارة.

والسؤال: كيف يكون حاله مع حالة فرد واقع في مستنقع الفقر؟ هل حالة هذا النوع من الأثرياء استثناء؟ إطلاقا لا؛ لأن هؤلاء جميعهم يعودون إلى صورة من الذاكرة المعيشة طوال فترة حياة الفرد، وهذه الصورة مفادها أن لا ضمان لخسارة حاضرة أو قادمة؛ أي لا تعويض لما قد يخسره أحدنا، وهذا مذهب مادي وهو أحد وجوه المذهب النفعي، ولذلك فالناس يتفاوتون في استيعاب مفهوم الصدقة -على سبيل المثال- وهو مفهوم إنساني، وديني في الوقت نفسه، ولأن الإنسانية ملتحمة بالدين التحامًا لا مثيل له، فإن عند من يذهب إلى هذا الاتجاه، فإنه يكون أكثر اطمئنانًا من غيره؛ لأنه يوقن أن ما يدفع به تجاه الصدقة هو معوض عنه بالنص الديني، سواء -بالنسبة للمسلمين- بالقرآن الكريم، وبالحديث النبوي الشريف على صاحبه الصلاة والسلام، ولذلك نسمع عن أناس هنا أو هناك يكادون يبذلون كل أموالهم لمشاريع خيرية، ربما دون أن ترجف لهم عين من خوف، أو شعور بالخسارة، صحيح أن هؤلاء قلة في كل المجتمعات، ولكنهم يظلون نماذج رائعة في الصورة الإنسانية ككل، ومثل هؤلاء مَن يشار إليهم بأنهم تحرروا من استحكامات المذهب النفعي، ونجحوا بإرادتهم لأن يكونوا في دائرة «الأخلاق البشرية».

السؤال هنا أيضا هل المذهب النفعي سلوك معياري؟ والجواب: نعم بكل تأكيد؛ لأنه يضم سلوكيات وممارسات صحيحة وغير صحيحة، وهذا معناه أنه قابل للقياس؛ ففي الوقت الذي يتبناه الفرد كسلوك سيئ ينتصر فيه لذاته فقط (تراكم الثروات) دون أن يكون لها منفذ للصرف المعتدل، بل قد يذهب بذات الفرد إلى كسب المزيد بطرق ملتوية، ودون وجه حق، ففي الوقت نفسه هناك من (يراكم الثروات) ولكنه يوجِد لها منافذ للصرف الرشيد والمعتدل، يحقق فيها ذاته الراغبة في الحصول على المال، وفي الوقت نفسه يترك مجالا نسبيا لأن يفيد غيره، سواء من خلال الصدقات الخارجة عن مفهوم الزكاة، أو من خلال امتثاله لأمر الله عز وجل في تزكية ثروته برضا تام، ودون تململ، أو انزعاج، وللتأكيد أن كلا الصنفين موجودان في أي مجتمع، وربما تكمن خسارة المجتمع أكثر عندما يكون الصنف الأول أكثر عددا من الصنف الثاني، وهل هذه المعيارية في المسألة النفعية؛ يكون فيها للدين موطئ قدم؟ الجواب نعم؛ لأن الدين محفز مهم جدًا في إرباك وتسلط المذهب النفعي واستحكاماته على النفس البشرية المفطورة أصلا عليه، كما جاء أعلاه في مثال الطفل، فـ«المعيار هو التقوى وليس الأقوى».

نسمع كثيرًا من القصص التي تروى عن أصحاب الثروات، المنتصر منها للمذهب النفعي، والعكس كذلك، وفي مجملها العبر والحكم؛ فالإنسان مخلوق ضعيف، خائف، مرتبك، يرى في المال أحيانا قوته وصولجانه، ويراه في حين آخر مأزقًا خطيرًا قد يؤدي به إلى حتفه، فيهرع أحيانًا إلى المنقذ «الدين» لكي ينقّي نفسه؛ خاصة عندما يتقدم به العمر، ويتموضع في أحيان أخرى مع نفسه الأمّارة بالسوء، فيغادر حياته دون أن يستفيد من ثروته شيئا سوى حرق الأعصاب الذي لازمه طوال حياته جزعا، وقلقًا وعداوة، وتجاوزا، خوف الوقوع في مستنقع فقدان؛ ولو الشيء اليسير من ثروته، ويأتي الحكم الصادم من لدن رب العزة والجلال: (ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والأرض والله بما تعملون خبير) - الآية (180) آل عمران.

أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفـي عماني

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق