تساؤلات في التعايش: لفهم المنهج وتطبيقه!

الوطن البحرينية 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

للبحرين طريقتها الخاصة في بناء جسور التقارب مع محيطها الإنساني وتبني لغة الحوار الهادئ والعقلاني في أوقات الحرب كما في السلم. ولحديثها المتواضع ألق خاص، وهي تقدم للعالم خصوصية تجربتها الفريدة والعريقة في احتضان قيم التسامح وإحيائها في ميادين الحياة.

وفي البحرين، مهما تقلبت الظروف أو اشتدت، تظل الحريات مصانة والحقوق مضمونة. وشاهدنا على ذلك استمرار تطورها الاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي، إلى جانب إدراك مجتمعها بأن النزوع للسلم والتمسك بقيمه هو السبيل للقضاء على دكتاتورية التعصب وآفات العداء المقيتة.

واستجابةً لندائها الأخير بمقر الأمم المتحدة، أصبحت الأسرة الدولية على موعد سنوي - كل 28 يناير - لتذكير الضمير العالمي بمقاصد هذا النداء المتحضر، التي نوجزها في:1- حتمية التعايش الحضاري بين المجتمعات البشرية، القائم على احترام الندية كوجه من وجوه التكامل، بدلاً من الهيمنة والتنافسية الأنانية، التي يُفترض بالنظام العالمي التخلص من رواسبها عبر الاتعاظ من التجارب القاسية لتاريخ طويل من الحروب والاقتتال.

2- إتقان ممارسات التعايش الإنساني داخل المجتمعات، للتصدي للأمراض الاجتماعية والفكرية عبر احتضان منهج «تعددية» التعايش في فضاء التفاعلات الحياتية.والتعددية المقصودة تنطلق من قاعدة هرم البنيان الاجتماعي، أي النواة الأسرية، وتمتد عبر مؤسسات التنوير الفكري والنضج المدني، لتصل في نهايتها إلى قناعات التعايش المرن التي تقرّب بين العقائد والآراء، مهما بلغت درجة تباينها.

فإن صح هذا الفهم لتحقيق مثاليات التعايش السلمي بأبعاده ومستوياته المتعددة، يبرز عندئذ السؤال الجوهري: كيف يمكن للمجتمعات أن تنجح في ترجمة تلك المثاليات - كضرورة إنسانية ملحّة - إلى واقع عملي يتجاوز منغصات التعايش، كالقطيعة وأزمة الثقة، ومصادرة حريات وحقوق الآخرين؟

وعند إسقاط هذا التناقض على تاريخنا الإسلامي – العربي، نجد اعوجاجاً واضحاً بين مكانة التعايش والتسامح، وضوابط حفظ وحماية الحقوق والحريات المطالبين بها شرعاً، وبين ظاهرة «اللاتسامح» القاسية التي تتسلل إلى مجتمعاتنا بين الحين والآخر. وآخر تلك الأمثلة، مجزرة الساحل السوري، التي أظهرت، ليس فقط هشاشة البنية الاجتماعية التي تقوم عليها مثاليات الوعظ بالمبادئ، بل انهيارها الكامل تحت وطأة الهجمات المتكررة لموجات العداء والعنف الدموي.

وهذه النزعة العدائية التي تطل بوجهها البشع من وقتٍ لآخر لا تقتصر على الأديان أو المذاهب أو القوميات المتعارضة، بل تمتد إلى داخل الدين أو المذهب ذاته، وداخل القبيلة أو العشيرة الواحدة. وحتى بين فصائل الحزب أو الحركة السياسية الواحدة. وقد وصف المفكر الأنصاري هذه الظاهرة بأنها حالة من «الفصام الجماعي» المستعصي على العلاج.

فالتسامح وقبول الآخر - ركيزتا التعايش السلمي - لا يُختزلان في تعاليم تُلقن أو خطب تُلقى، ولا هما «فطرة يولد بها البشر»، بحيث تتحول المجتمعات تلقائياً إلى كيانات متصالحة، بل هما سلوك حيّ ينبع من «الممارسة العملية بالدرجة الأولى»، وإلا، فستظل تلك المبادئ المثالية تحلّق فوق رؤوسنا، بينما نهيم على وجوهنا ضائعين.

وإذا افترضنا أن الفهم النظري للتعايش هو أول الطرق لقبول وتجاوز الاختلافات الفكرية والعقائدية، فإن السير فيه يتطلب تأسيساً صحيحاً لقنوات الحوار المقربة للمسافات بين وجهات النظر، والواعية لاعتبارات إدارة الخلاف وضبطه ضبطاً متحضراً لا ينفلت مع انفلات الآراء وتعارضها. وهنا يبرز الدور المطلوب للمؤسسات المسؤولة عن بناء الإنسان، وتربيته دينياً، ومدنياً، وثقافياً.

ثم يأتي دور أنظمة الدولة وقوانينها لوأد أية محاولات لسلب «هبة» التنوع والتعددية، وتضييق الفجوة بين المبادئ في صيغتها النظرية والممارسة العملية، التي يجب أن تقترن باعتناق حقيقي لتلك القيم المنقذة للبقاء الإنساني، فيكون الإنسان أخاً للإنسان: إما في الدين أو نظيراً في الخلق، كما قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

وأما كلمة السر لإطلاق سراحنا من سجون «اللاتسامح»، فهي بالتخلص من أزمة «تقزم» الهوية الوطنية الجامعة أمام عملاق الأكثرية وبكائيات الأقلية، مع منع الأيدي الخفية من التسلل عبر الأبواب الخلفية.* عضو مؤسس دارة محمد جابر الأنصاري للفكر والثقافة

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق