ترامب يدشِّن نسخة أمريكية من الثورة الثقافية

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

لا يوجد مجال الهيمنة العالمية للولايات المتحدة فيه مطلقة مثل التعليم العالي. فأمريكا التي تشكل 4% من سكان العالم و25% من الناتج المحلي العالمي بها 72% من أفضل 25 جامعة في العالم وفقا لأحد التصنيفات. وحسب تصنيف آخر تساوي النسبة 64%. لكن هذه الميزة التنافسية الحاسمة للولايات المتحدة يجري تقويضها بالحرب التي تشنها إدارة ترامب على الجامعات.

قال نائب الرئيس الأمريكي جيه دي فانس في خطاب أمام مؤتمر المحافظين القومي في عام 2021 «علينا أن نهاجم الجامعات في هذا البلد بصدق وشراسة. الأساتذة هم الأعداء.» وضعت الإدارة الأمريكية هذه الكلمات موضع التنفيذ. وكان الهجوم الأكثر إثارة على الجامعات ماليّا وتمثل في التجميد أو الخفض الكبير لمِنَح وقروض البحوث المقدَّمة لها من الحكومة الفيدرالية.

بعض هذه الإجراءات المالية قيد المراجعة بواسطة المحاكم. لكن أثرها التراكمي قد يكون تخفيضاتٍ ببلايين الدولارات لمخصصات البحوث الأساسية. والكثير منها سيعطِّل تنفيذ مشروعات وبرامج بحث قائمة.

أنجِزت البحوثُ رفيعة المستوى بالولايات المتحدة في بيئة علمية فريدة. فالحكومة الفيدرالية تقدم الكثير من التمويل عبر مؤسسات مرموقة كالمعاهد الوطنية للصحة والمؤسسة الوطنية للعلوم. وتغطي المؤسسات والشركات الخاصة معظم الباقي.يستخدم الأساتذة سواء في الجامعات الحكومية أو الخاصة هذه الأموال لإجراء البحوث. ولا يوجد بلد آخر له نظام بنفس الجودة. وما هو عرضة للخطر الآن ما يدعوه هولدن ثورب رئيس تحرير مجموعة دوريات العلوم «العقد الاجتماعي بين الحكومة الفيدرالية والمؤسسات لتمكين مشروع البحث العلمي في أمريكا خلال الثمانين عاما الأخيرة.» لنأخذ جامعة ديوك وهي تأتي في المرتبة رقم 11 بين الجامعات من حيث إجمالي المنح التي حصلت عليها من معاهد الصحة الوطنية في العام الماضي. فقد موَّلت واشنطن ميزانيةَ أبحاثها التي تبلغ 1.33 بليون دولار بحوالي 863 مليون دولار، وفقا لوكالة اسوشيتدبرس. يشمل ذلك أموالا لمشاريع أبحاث بالغة الأهمية عن السرطان وأمراض أخرى لكن أيضا دعما لأكثر من 630 طالب دكتوراة في المدرسة الطبية. وإذا نفذ قرار التخفيضات سيلزم تقليص أعداد هذه المشاريع والطلاب بقدر كبير. ويوم الخميس الماضي فقط أعلنت جامعة جون هوبكنز عن تسريح عدد كبير من عامليها. وذكرت إنها ستتخلى عن أكثر من 2000 منهم بعد فقدانها منحا فيدرالية بملايين الدولارات.

إحدى الآليات بالغة الأهمية لخفض التمويل هي تقليص النفقات الإدارية أو غير المباشرة التي تغطيها الجامعات بتمويل من الحكومة الفيدرالية. كثيرا ما تشكل هذه النفقات ما يصل الى 40% أو 50% من المنحة. لكن في الشهر الماضي أمرت معاهد الصحة الوطنية بأن يكون سقفها الأعلى 15%.

هذا الخفض يبدو أكثر معقولية مما هو عليه في الواقع. فالجامعات تقسِّم تكاليفها المتعلقة بالمنح العلمية الى تكاليف أبحاث (رواتب الأساتذة وطلاب الدراسات العليا) ونفقات إدارية (تكاليف المباني والمعامل والطاقة والمرافق والهيئة الإدارية). وعند إنشاء معمل متطور لإجراء التجارب كثيرا ما يكون المبني والمعدات أكثر تكلفة بكثير من الرواتب والمنح الدراسية للباحثين. لقد أعلنت جامعة ولاية ميشيغان أن هذه التخفيضات قد تضطرها الى وقف تشييد مبنى أبحاث خاص بدراسات السرطان وأمراض القلب والأوعية الدموية وعلم الأعصاب.

يلعب التمويل الحكومي دورا فريدا. فهو غالبا ما يدعم البحوث الأساسية من ذلك النوع الذي ليس لدى الشركات حافز للقيام به ولا يمكن احتكار نتائجه بواسطة أية شركة بمفردها بل تتاح دون مقابل للمجتمع العلمي والتقني بأجمعه لكي يكون بمقدور كل أحد استخدامها للتجارب والابتكار.

كلف مشروع رسم خارطة الجينوم البشري أقل من 3 بلايين دولار واستغرق إنجازه 13 عاما. ولأنه ممول بواسطة الحكومة كان أحد المطلوبات الرئيسية وجوب إتاحة نتائجه لكل أحد خلال 24 ساعة من استخلاصها.

الاعتداء الآخر على الجامعات هجومٌ جديد وغريب على حرية الكلام. لقد بدأ من نقد مبدئي وهو أن الأجهزة البيروقراطية والجامعات والنخب أصبحت كلها «صحوية.» لكن تعامل الحكومة مع هذه المشكلة كان «أورويليِّا» وذلك بالتفتيش في كل هذه المؤسسات عن أي ذكر لكلمة التنوع أو الهوية أو الشمول ثم وقف برامجها دون أية مراجعة. (يقصد الكاتب بكلمة الصحوية أو woke الإفراط في التركيز على العدالة الاجتماعية وسياسة الهوية وبكلمة أورويليَّا المشتقة من اسم جورج أورويل مؤلف روايتي 1984 ومزرعة الحيوان سيطرة الحكومة الأمريكية على هذه المؤسسات بإجراءات رقابية - المترجم.) وما هو أسوأ تعاقب الحكومة الجامعات لوجود أناس بها قد يتبنون وجهات نظر معينة حول قضايا مثل فلسطين وإسرائيل. وهي الآن تعاقب المحتجين أنفسهم.

لقد حاججتُ منذ مدة طويلة بأن الجامعات لديها مشكلة كبيرة. فهي لا يكاد يوجد بها تنوع فكري وأيديولوجي يذكر. إنه التنوع الأهم في الحرم الجامعي. لكن الطريقة التي يمكن إصلاح ذلك القصور بها ليست تقييد حرية الكلام للجناح اليساري بل إضافة أصوات وآراء من ألوان الطَّيف الأخرى. فالرد على الرقابة بواسطة اليسار ليس الرقابة بواسطة اليمين.الشراسة التي واجهت بها إدارة ترامب الجامعات تشبه الأيام الأولى للثورة الثقافية عندما حطَّم الزعيم الصيني ماو زيدونج الذي سيطرت عليه الشكوك جامعاتِ الصين الراسخة. كان ذلك جنونا احتاجت الصين الى عقود من السنين للتخلص من آثاره. (الثورة الثقافية حسب ويكبيديا حركة اجتماعية سياسية في الصين دشنها ماو عام 1966 واستمرت حتى عام 1976 وهدفها الرسمي والمعلن كان الحفاظ على الاشتراكية الصينية بالقضاء على فلول العناصر الرأسمالية والتقليدية في المجتمع الصيني ( المترجم.) في الأثناء أعلنت الحكومة الصينية في بكين هذا الشهر أنها ستزيد بقدر كبير تمويلها للبحث والتقنية حتى يكون بمستطاعها قيادة العالم في ميدان العلوم في القرن الحادي والعشرين. وهكذا في حين يبدو أن أمريكا تستنسخ أسوأ جوانب التاريخ القريب للصين تستنسخ الصين أفضل جوانب تاريخ أمريكا. فهي تسعى الى التفوّق فيما تكابد الولايات المتحدة ثورتها الثقافية الخاصة بها.

فريد زكريا .. كاتب رأي في صحيفة واشنطن بوست ومقدم برنامج يتناول القضايا الدولية والشؤون الخارجية على شبكة سي إن ان.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق