متغيرات السياسات الدولية

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

يحدث خلط أحيانًا بين مفهوم «السياسة العالمية» ومفهوم «السياسات الدولية»: والحقيقة أنني أرى المفهوم الأول مفهومًا بلا «ما صدقات» (بلغة المنطق)، أي مفهومًا ليس له ما يصدق أو ينطبق عليه في دنيا الواقع، أو هو على الأقل مفهوم غامض وفضفاض. ذلك أن ما يُوجد في الواقع ليس بسياسة عالمية، وإنما سياسات دولية تتعلق بعلاقات الدول بعضها ببعض وبسائر المؤسسات والمنظمات الدولية، وهي سياسات تتأثر بقوة بالأوضاع والمتغيرات السياسية والاقتصادية الراهنة والمتوقع أن تطرأ على العالم مستقبلًا؛ لأن هذه الأوضاع والمتغيرات هي ما يمكن أن يخلق دولًا ونظمًا وتكتلات سياسية واقتصادية تُسهم باستمرار في تشكيل النظام العالمي.

ولذلك فإن هذا النظام العالمي يتغير من حقبة إلى أخرى، وحتى حينما يسود نظام عالمي ما زمنًا طويلًا وبقدر ما من الثبات، نجد أنه تنشأ من داخله متغيرات تعمل على تفكيكه أو -على الأقل- الاستقلال النسبي عنه، وبذلك تتغير العلاقات بين الدول وفقًا لموازين القوة والتأثير، ويصبح هناك تقريب للبعيد وتبعيد للقريب (بشكل نسبي وزماني بطبيعة الحال).

كيف نطبق ذلك على عالمنا الراهن؟ الواقع أن ذلك القول الذي ذكرت ينطبق على عالمنا الراهن بشكل أكثر وضوحًا من انطباقه على أية عوالم تنتمي إلى حقب سابقة؛ لأن الأوضاع في عالمنا تتغير بشكل متسارع أكبر كثيرًا مما كان يحدث في أية حقبة سابقة، وهو تغير يحدث أحيانًا بين ليلة وضحاها.الشواهد على ذلك لا حصر لها، ولكن يكفي هنا التذكير ببعض منها:

لعلنا نتذكر الأوضاع السياسية العالمية التي كانت سائدة منذ ثلاث سنوات حينما اندلعت الحرب بين روسيا وأوكرانيا. كانت الحرب محسومة منذ البداية لصالح روسيا؛ نظرًا لتفوقها العسكري الكاسح؛ ولكن المتغير العالمي الذي طرأ على السيناريو ليطيل أمد الحرب، هو دخول الغرب بزعامة الولايات المتحدة في المشهد بقوة، وتكريس حلف الناتو ليكون داعمًا لأوكرانيا.

وهكذا بدأت تدق طبول حرب عالمية ثالثة كان يمكن أن تكون مدمرة للعالم؛ خاصةً أن روسيا وحدها تمتلك أكبر قوة نووية بالقياس إلى أية دولة أخرى! ونظرًا لأن هذا الاحتمال بدا مستبعدًا في نظر العقلاء؛ فقد بدا لنا هذا الصراع أشبه بساحة لاستعراض القوة والنفوذ إلى حد التهديد على أرض الواقع، بين قوة غربية مهيمنة، وقوة شرقية مناوئة لهذه الهيمنة بزعامة روسيا ومن ورائها الصين وإيران، وغيرهما.

ولقد سبق أن ذكرت آنذاك في مقال منشور بهذه الجريدة الرصينة أن رئيس أوكرانيا لم يفهم أن الغرب الذي ينفخ في صورته باعتباره بطلًا، إنما يستخدمه باعتباره أداة في هذه الحرب. ولقد أثبتت الأيام صدق نبوءتي بعد أن تحقق متغير عالمي جديد، وهو فوز ترامب برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية (وهو في الأصل رجل أعمال كبير جاء ليتعامل مع الأوضاع السياسية بمنطق الربح وحده، وباعتبارها أوضاعًا تتبدل باستمرار كما تتبدل أسواق التجارة والمال): فمنذ ذلك الحين لم يعد الغرب يمثل كتلة واحدة بزعامة الولايات المتحدة، داعمة لأوكرانيا ضد روسيا، بل انشق ترامب عن هذه الكتلة، ورأينا ما رأينا من مشاهد مهينة لرئيس أوكرانيا في البيت الأبيض، لا يبدو فيها باعتباره زعيمًا قوميًّا مثلما كان يتم تصويره قبل ذلك بشهور قليلة، وإنما يبدو في حجمه الحقيقي باعتباره أداة في يد قوى الغرب التي استخدمته بأشكال متنوعة في فترات متباينة.

ذلك التصدع في كتلة الغرب كانت له نتائج بعيدة المدى، فقد بدأت بعض الدول الغربية الكبرى في الدعوة إلى اتخاذ سياسات مستقلة لا تدور في فلك سياسات الولايات المتحدة، ولا تعتمد عليها كقوة عسكرية؛ حتى إن بعضها بدأت في زيادة ميزانيات ترساناتها المسلحة! والحقيقة أن هذا الانشقاق أو الاستقلال النسبي لم يظهر فحسب على خلفية الصراع بين روسيا وأوكرانيا، وإنما ظهر أيضًا على خلفية الصراع على أرض فلسطين: فقد تكشفت المواقف الرسمية لبعض الدول الأوروبية الداعمة لحقوق الفلسطينيين والمناوئة للموقف الغربي الداعم لإسرائيل على حساب حقوق الفلسطينيين، مثل: إسبانيا والنرويج وأيرلندا.

ومن الشواهد البارزة أيضًا على المتغيرات السياسية في عالمنا ما جرى ولا يزال يجري بعد اندلاع الثورة السورية؛ فقائد هذه الثورة المدعوم من دول على رأسها تركيا، قد أصبح رئيسًا للبلاد وممثلًا لها في المحافل السياسية والعلاقات الدولية، بعد أن كان مصنفًا على قوائم الإرهاب لدى الولايات المتحدة! وهذا تغير بالغ الدلالة في مواقف الدول الغربية، وهو تغير محكوم بمصالح وحسابات الغرب المعقدة في منطقة الشرق الأوسط؛ وتلك مسائل دقيقة يستطيع أن يخوض فيها أهل الاختصاص. والواقع أن الوضع في سوريا بالغ التعقيد، وربما يكون على المحك.

هذه المتغيرات السياسية الدائمة تشهد بأن السياسة بالفعل هي فن الممكن، أي فن إدارة الأمور وفقًا للممكنات والمتغيرات. والغالب على الأوضاع السياسية العالمية الراهنة هو حالة أسميها «حالة الخلخلة أو الرجرجة» إن جاز استخدام هذا التعبير، وهي حال تشبه المخاض الذي يسبق ولادة نظام عالمي جديد تتوازن فيه القوى على الأرض، وبذلك يتحقق الاستقرار النسبي للأوضاع العالمية.

ولذلك فإنها أيضًا حالة تشبه البراكين والزلازل التي يعقبها استقرار الأرض إلى حين. (وقد يكون تصويري هنا ضاربًا في الخيال أو تعبيرًا عن رؤية ميتافيزيقية للسياسة). والحقيقة أن هذا هو المعنى الميتافيزيقي البعيد الذي أفهمه من قوله تعالى: «ولولا دفع الله الناسَ بعضهم ببعض، لهُدِّمت صوامع وبيَع وصلوات ومساجد يُذكَر فيها اسم الله كثيرًا».

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق