دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- وجد العلماء أنّ الأشجار المرسومة في أعمال فنية شهيرة، بمختلف الأساليب، تتّبع قواعد الطبيعة الرياضية ذاتها.
يتجلى المفهوم الرياضي الكامن في فن الأشجار هذا، على غرار الأشكال الهندسية المعروفة باسم الكسيريات، في أنماط التفرّع بالطبيعة، وقد يكون مفتاحًا لقدرة البشر على تمييز أعمال فنية مثل الأشجار، وفقًا لميتشل نيوبيري، عالم الأحياء الرياضية في جامعة نيو مكسيكو، وزميلته جينغي غاو، طالبة الدكتوراه في جامعة ويسكونسن.
ومثل أغصان وأوراق الشجرة، تُكرر الكسيريات الأنماط ذاتها عبر مقاييس مختلفة. كما أنّ رقاقات الثلج، والصواعق، والأوعية الدموية البشرية هي أيضًا هياكل كسيرية، تُظهر جميعها درجة من التشابه الذاتي: فعند تكبير تفاصيل الكسيرية، يمكنك رؤية نسخة طبق الأصل من الكل.
وأفادت غاو في بيان صحفي، بأنّه "إذا نظرت إلى شجرة، ستجد أغصانها متفرّعة. ثم تُكرّر الأغصان الفرعية شكل الغصن الأم".
اختار نيوبيري وغاو دراسة الأعمال الفنية التي تُصوّر أشجارًا منفردة. وتضمنت مختاراتهما التي قالا إنها تمتد عبر عصور وثقافات مختلفة، منحوتات نوافذ حجرية تعود للقرن السادس عشر من مسجد سيدي سيد في الهند، ولوحة "أزهار الكرز" للفنان الياباني ماتسومورا غوشون من القرن الثامن عشر، وعملين فنيين للرسام الهولندي بيت موندريان من مطلع القرن العشرين. كما درسا لوحة غوستاف كليمت "شجرة الحياة" (1909).

وجدا أنّ الأشجار المصوَّرة في الأعمال الفنية، حتى لو كانت تجريدية أو أسلوبية، تتوافق في الغالب، لكن ليس دومًا، مع أنماط التفرّع والمقاييس الموجودة في الأشجار الطبيعية.
في هذا الصدد قال نيوبيري لـCNN: "أي نوع من التجريد هو وسيلة لمحاولة فهم القوانين الطبيعية، سواء كان تجريدًا رياضيًا أو تجريدًا فنيًا. فهناك أنواع عديدة من الأشجار في العالم، لكن هذه النظرية تُظهر لنا (وتعطينا) بعض المبادئ الأساسية لما نتوقعه من شجرة".
فنيوبيري، لطالما كان من مُعجبي أعمال موندريان وكيف أنه صوّر الأشجار بطرق تجريدية، حيث أزال جميع العناصر باستثناء العناصر الأساسية، مع الحفاظ على صورة شجرة واضحة. وقد توافق هذا مع عمله الذي يشرح رياضيًا كيف تستخدم الهياكل الشبيهة بالأشجار في علم الأحياء البشري، مثل الأوردة والشرايين والرئتين، شكلها المادي لتوصيل الدم والهواء بكفاءة.
للوصول إلى نتائجهما، نجح الباحثان في ابتكار طريقة لتقييم أنماط التفرع في الأشجار، وتعميمها في صيغة شائعة وبسيطة، بحسب فابيان فيشر، الباحث في جامعة ميونيخ التقنية بألمانيا، غير المشارك في دراسة نيوبيري وغاو.
وقال فيشر: "تستند هذه الطريقة إلى أفكار تعود إلى ليوناردو دافنشي، وقد أعاد علماء الأحياء النظر فيها مرات عديدة".
وأضاف: "لقد وجدتُها قراءةً محفزةً للغاية، مع وجود صلة مثيرة للاهتمام بين الأعمال الفنية وعلم الأحياء".
مقياس 1 للشجرة
في الطبيعة، لا تقتصر الأنماط الكسورية على الجانب الجمالي فحسب، بل ترتبط أيضًا بالوظيفة. على سبيل المثال، يُمكّن التفريع الأشجار من نقل السوائل، وجمع الضوء، والحفاظ على الاستقرار الميكانيكي. ولأن الكسورية شكل هندسي، يمكن لعلماء الرياضيات حساب تعقيدها، أو بُعدها الكسوري، حتى عند ظهورها في الأعمال الفنية.

لفتت غاو إلى أنّ "هناك بعض خصائص الفن التي تبدو جمالية أو ذاتية، لكن يمكننا استخدام الرياضيات لوصفها".
في بحثهما المنشور في المجلة العلمية PNAS Nexus في 11 فبراير/ شباط، حلّل غاو ونيوبيري التباين بسماكة أغصان الأشجار في الأعمال الفنية التي درساها. أخذا بالاعتبار عدد الأغصان الأصغر لكل غصن أكبر، واستخدما هذه المعلومات لحساب رقم أطلقا عليه اسم "أسّ مقياس قطر الغصن".
وجدت الدراسة أن قيمة مقياس قطر غصن الأشجار في الأعمال الفنية تطابق بشكل عام نطاق 1.5 إلى 3 للأشجار الحقيقية. خارج هذه القيم، لم يكن من السهل تمييز الأشياء المصورة على أنها أشجار.
فوجئ غاو ونيوبيري عندما وجدا أن قيمة نحت المسجد الهندي ذات الأسلوب الرفيع أقرب إلى قيمة الأشجار الحقيقية من قيمة شجرة "أزهار الكرز"، التي اعتقدا بداية أنها تبدو أكثر طبيعية.
رغم ثراء لوحة "أزهار الكرز" بالتفاصيل، إذ تضم أكثر من 400 فرع فردي، إلا أن أسًا للقياس بلغ 1.4، فيما تبلغ قيمة الشجرة المنحوتة الهندية 2.5 بحسب الباحثان.
وعلق نيوبيري على الأمر بأنّ وجود عامل قياس أكثر واقعية لقطر الفرع ربما مكّن الفنانين من خوض غمار الإبداع مع الحفاظ على طابع الشجرة المميز.
وأضاف نيوبيري: "بما أنك تتجاهل التفاصيل وتريد أن يتعرف المشاهدون على هذه الشجرة الجميلة، فقد تضطر إلى الاقتراب من الواقع في جوانب أخرى".
وبالطبع، يرجّح أن فنانين مثل موندريان وكليمت لم يكونا على دراية بالكسيريات، أو الرياضيات التي تدعمها، لكن ربما كان لديهم فهم فطري للنسب الدقيقة التي تشترك فيها جميع الأشجار، وفقًا للباحثين.
بالنسبة لفيشر، يرى أن الدراسة كانت استكشافية، وأن نطاق أنواع الأشجار والأعمال الفنية المختارة محدود وانتقائي، وبالتالي لا يمكن استخلاص استنتاجات قاطعة منها.

آثار الأنماط الكسورية
درس الباحثون سلسلة من أعمال الرسام التجريدي موندريان، التي تُصوّر الشجرة نفسها، إنما طرق أقل واقعية بشكل متزايد.
تُظهر لوحته "De Grijze Boom" ("الشجرة الرمادية")، التي رسمها العام ١٩١١، سلسلة من الخطوط السوداء على خلفية رمادية، ومع ذلك، يُمكن التعرّف على اللوحة فورًا على أنها شجرة، حيث تبلغ قيمة مقياس فرعها ضمن نطاق الشجرة الحقيقية ٢.٨.
قال نيوبيري: "لا أعتقد أنه (موندريان) يحاول حتى اكتشاف جوهر الأشجار، لكن فيما يُفرّغها من العناصر، فإن هذا الأمر الذي نعتقد أنه مهم حقًا في العلم ينتهي به الأمر كي يكون من آخر الأشياء التي تختفي (بعيدًا) في الفن".
وأشار نيوبيري إلى أنه "من الواضح أنه يعتقد أنها مهمة حقًا، ومن الواضح أنها مهمة جدًا للإدراك البشري". رغم ذلك، في لوحة "شجرة التفاح المزهرة" لموندريان العام ١٩١٢، وهي لوحة من السلسلة نفسها، اختفى مقياس قطر الفرع، وفقًا لنيوبيري، بقيمة ٥.٤.
وأشار الباحثون في الدراسة إلى أنه "بينما يرى معظم مشاهدي لوحة "الشجرة الرمادية" شجرةً فورًا، يرى المشاهدون السذج للوحة "شجرة التفاح المزهرة" راقصين، وجذورًا، وأسماكًا، ووجوهًا، وماءً، وزجاجًا ملونًا، وأوراقًا، وأزهارًا، أو لا شيء تمثيلي على الإطلاق".
كما فحص الباحثان لوحة غوستاف كليمت العام ١٩٠٩ "شجرة الحياة". ورغم أن تصوير الشجرة في هذا العمل الفني مُنمّق للغاية، إلا أن قياسات الدراسة تشير إلى أنها تقع أيضًا ضمن النطاق الإحصائي لشجرة حقيقية.

ليس مؤلفا الدراسة أول من طبّق الرياضيات على الأشجار في الفن. فقد لاحظ عالم عصر النهضة الموسوعي ليوناردو دافنشي نمو الأشجار، ووضع قاعدته الرياضية الخاصة لرسمها. ووفقًا للبحث الجديد، ألهم عمله في فسيولوجيا الأشجار العلماء وفناني المناظر الطبيعية على حد سواء لدراسة أنماط التفرع.
وقال ريتشارد تايلور، أستاذ الفيزياء في جامعة أوريغون، إن نتائج الدراسة مثيرة للاهتمام لأنها تدمج المناهج الفنية والعلمية في دراسة الأشجار.
وخلص تايلور، غير المشارك في الدراسة، إلى أنه "رغم تركيز المقالة على الأشجار، إلا أنها تتناول سؤالًا أكبر بكثير، لِمَ تبدو الأنماط الطبيعية بهذا الجمال؟ وأن التعاون بين الاختصاصات المختلفة ضروري لتقديم الإجابات".
0 تعليق