الأخلاق كونها سياسة..

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

إن الأخلاق وعلاقتها بالمجتمع والسياسة أحد أكثر الانشغالات الفلسفية حضورًا في الدراسات الاجتماعية عند مراكز الأبحاث الغربية، وبالطبع ليس من حظ كبير للكتابة العربية في المسألة الأخلاقية، والسبب هو الفهوم المغلوطة لموضوعة الأخلاق في الوعي العربي، وهذا بائنٌ اجتماعياً بصورة لا تحتاج إلى دليل.. والأخلاق في قاموسنا العربي هي جمع خُلُق وهي: السجيَّة والطبع، والمروءة والدِّين – لسان العرب» – لكن ظل الحديث عن الأخلاق في المدونة العربية قديما وحديثا يرتبط فقط بجانبٍ هو الأكثر هَشَاشَةً في البناء الاجتماعي، أي الأخلاق بوصفها سلوكيا جسدانيا وليست قيما عليا في الوعي الداخلي للذات، فلو راجعنا الكتابة حول الأخلاق قد لا نقع إلا على شذرات تتحدث عن الطبيعة الإنسانية للفعل الاجتماعي، ومنها يتفرع ما يمكن تسميته بفردنة (من فرد) الأخلاقي والاعتقاد بأن مصادرنا لم تتعرض للموضوعة الأخلاقية إلا في حدود ضبط السلوك الفردي وصولا إلى الجماعي، وأنها تجيز قانونها لتمنع وتحاصر فقط حالات الانحراف البدني والغريزي عند الفرد، وهذا عين الفقر المعرفي في فهم حقائقنا الثقافية.

لعل أول من لفت الانتباه إلى قضية الأخلاق باعتبارها جملة قائمة بذاتها في الوعي وليست نابتة دون تركيب، كان مسكويه (320هـ- 421هـ) في كتابه «تهذيب الأخلاق» ففي مقالته الخامسة نقع على تعريف سابق لما ذهب إليه كانط، فلديه أن المجتمع هو لقاء للتضامن الأخلاقي، بل هو تعريف سابق حتى لعلماء الاجتماع الحديث الذين نَظَّروا بقوة لصالح فكرة الاجتماع البشري، حيث يقول مسكويه في تعريف الأخلاق الاجتماعية: «...القول في حاجة بعض الناس إلى بعض، وتبيَّن أن كل واحد منهم يجد تمامه عند صاحبه، وأن الضرورة داعية إلى استعانة بعضهم ببعض؛ لأن الناس مطبوعون على النقصانات ومضطرون إلى تماماتها، ولا سبيل لأفرادهم والواحد، فالواحد منهم إلى تحصيل تمامه بنفسه؛ فالحاجة صادقة والضرورة داعية إلى حالٍ تجمع وتؤلف بين أشتات الأشخاص؛ ليصيروا بالاتفاق والائتلاف كالشخص الواحد الذي تجتمع أعضاؤه كلها على الفعل الواحد النافع له». إن هذا النص هو عين فكرة الأخلاق في المجتمع، ففي الوقت الذي انتهت فيه جهود إميل دوركايم (1858م – 1917م) إلى الاعتراف بأن الاعتماد والضعف هما من سمات حالة كل فرد، كان مسكويه قد سبقه بقرون إلى الإشارة باجتماعية المعنى الإنساني، وكيف أن المحدد الصانع للنفع العام هو اتحاد الأفراد لصالح تحقيق أخلاق السعادة، وفي عصرنا الراهن كانت الأمريكية نيل نودنجز فيلسوفة الرعاية قد حددت بوضوح أن الضَعْف هو نقطة ارتكاز للفكر الأخلاقي والسياسي، ومفردة «الرعاية» هي ذاتها التي بَيَّنها ابن خلدون في مقدمته (1377م) حيث أشار «... قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من ذلك الغذاء، غير موفية له بمادة حياته منه- المقدمة - ص 65»، ومن هنا فإن الأخلاقي لا يتصل فقط بالفردي، بل هو جوهر وجود المجتمعات، أي أنه لا وجود لاجتماع بشري دون حاضنة قيمية يتأسس فيها وعليها وجوده المادي والمجازي.

وفي موضوع اتصال الأخلاق بالسياسة فإن مجهودات كبرى تمت لصالح فهم الصلة بينهما، بل والتحقق من فاعلية الثانية كونها تجليًا حُرًا للأولى، وذلك فإن تعريف السياسة منذ القرن الثامن عشر أنها: «كل ما تختار الحكومة القيام به أو عدم القيام به، أو هي القرارات التي تتخذها الحكومة للتصرف أو عدم التصرف لمعالجة أو حل مشكلة متصورة» كما يقول توماس داي (1748م – 1789م) حين كان يُعِّري موقف حكومته البريطانية من قضية استرقاق العبيد وبيعهم دون وازع أخلاقي، وهذا ما يشير إلى ضرورة وجود مرجعية تنطلق منها الفاعلية السياسية، وأنه ليس بالإمكان القيام بعمل سياسي دون إدراك فاعليته الاجتماعية وآثاره، ثم في ستينيات القرن الماضي تطور مفهوم السياسة من كونها إدارة تمثيلية لتحقيق حالات التضامن والمواطنة الاجتماعية، وأنها أداة لإنجاز المساواة والحقوق بين الأفراد، حتى انتهت اليوم وهي في صلة تامة بالقيم الاجتماعية إذ انتقلت من كونها مراقبة للواقع الاجتماعي ناحية العمل على حماية الوعي العام وحراسته من الانهيار حال تعرضت قيمه إلى هجوم يهدد وحدته، وهذا ما جعل العالم المتقدم يولي اهتماما واسعا عبر مراكزه البحثية بتعميق البناء العام لأفراده والتحقق في كل ما من شأنه أن يوفر أسبابا للإقصاء الاجتماعي، واعتبار ذلك خطرا يجب محاربته بالمزيد من ربط الفرد بالقيم الكلية لمجتمعه، وهذا يفسر لك بعض المواقف من المهاجرين كونهم متهمين بتهديد قيم المجتمع الغربي، وأن شرط قبولهم انخراطهم بالكلية في منظومته الأخلاقية العامة حتى وإن تعارضت مع قناعاتهم! وهذا ما حدا بمفكر في قدر بيير بورديو أن يقول: كل فعل سياسي هو تمثيل للإدراك العام، أي إن الإدراك في الواقع له مصلحة أخلاقية وسياسية، وأن مفاهيمنا الأخلاقية تعتمد في تطبيقها على الفهم الذي نملكه حول وجودنا، والذي يحدد ما هو صحيح بالنسبة لنا.

وصحيح أن العالم يعيش اليوم حالة من الميكافيلية الأخلاقية والتي تمتاز بالفصل بين الأنظمة الاجتماعية، فما هو أخلاقي وإنساني في المجتمع الغربي لا يصح تعميمه على غيره من المجتمعات، فالأخلاق تظل لديه امتيازا قبل كل شيء، امتياز تركَّب على حالات التطور الاجتماعي فيه، وهذا يفسر كيف يصمت العالم الغربي بمؤسساته وأحزابه وتياراته المدنية على ما يلحق بالآخرين من عنف، بل إن حتى الأصوات التي تتعالى لصالح ترسيخ مفهوم كوني للأخلاق يتم إسكاتها أو محاصرتها في التمويل وتجريمها في الإعلام، ولذا فإن المشروعية الأخلاقية لعنف الآلة الغربية ليست خروجا عن منظومتها التي هي تعبير على طبائع بنائها الاجتماعي فقط، بل هي كولونيالية ثقافية متجددة تعتقد أن كل ما هو غير غربي لا يجب تطبيق العدالة الأخلاقية تجاهه، وحتى لا يكون الأمر مجرد مَظْلَمة فإن الواقع العربي الداخلي لم يتطور كفاية ليوسع دائرة وعيه الأخلاقي، ويبني منظومته على هدى من واقعه، ولا يزال يمارس إصراره الغريب على جعل المسألة الأخلاقية سلوكا وليست فلسفة، وهنا فإن اللوم لا يقع على الجاني إذ هو يَعِي ما يفعله، ويملك حججه المنطقية من وجهة نظره، بل إن أحكامه السياسية ذاتها ما هي إلا تعبير عن قيمه؛ قيم ضد مرجعيتنا العربية، فنحن لا نزال نعيش حالات التِّيه المعرفي حيث تنقسم أنظمتنا المعرفية وتعيش صدامها الخاص، ودونك صراعاتنا الطائفية والمذهبية والعرقية كأن المجتمع فينا لم ينشأ بعد! والحق أن الضحية في سباتها لا تريد تطوير منظومتها الأخلاقية، لكنها حين تفعل ذلك فإنها قادرة على مواجهة الآخر المدجج بترسانة من الأحكام الجاهزة تجاه كل ما هو عربي وإسلامي بل وشرقي في عمومه.

غسان علي عثمان كاتب سوداني

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق