لماذا لا تستسلم يا عمر؟!

السبيل 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
عبد الله المجالي

بعد أن تلقت حركة عمر المختار ضربات قاسية واضطرت للانسحاب إلى الجبال، في لحظة الضعف المادي هذه، جاء هذا الحوار.

الشارف الغرياني (وهو رجل دين معروف تعامل مع الطليان تحت حجة أنه لا يمكن مقاومتهم بل الأفضل مهادنتهم): للمجيء اضطررنا لركوب السيارات الإيطالية، فقال له المختار مستهزءا: فوجدتموها مريحة.

هؤلاء لا يستطيعون الحديث علانية أمام العامة رغم أنهم يبدون على شكل سادة، فقالوا: نريد محادثتك وحدك، لا نستطيع الحديث علنًا. فرد عليهم المختار ابن الشعب الذي يعيش بينهم: إذا لا أريد أن أسمع.

اضطر “السادة” أن يتحدثوا علنا، فهم يحملون رسالة أصحاب السيارات، ولا بد أن يؤدوها بأمانة!! هذا دأبهم لكن مع الأسياد وليس مع الشعوب!!

كانت الرسالة واضحة تماما: يا عمر لماذا لا تستسلم! احصل على أفضل الشروط مع الإيطاليين! محمد رضا (سليل حكام ليبيا السنوسيين الذي استسلم للإيطاليين مبكرا) كان بكامل أناقته وزيه العربي الأصيل، ولم ينس القلادة والنياشين بالطبع) سيؤمن لك طريقا للخروج! فرد المختار والدهشة تعلو وجهه: إلى أين؟ ليرد الشارف الغرياني بسرعة فائقة وكأنه لقي كنزا: إلى مصر. ليرد المختار بسخرية مرة أخرى: إلى مصر! لأختبئ مع أخيه (أخو محمد رضا) ليطأطئ محمد رأسه، وليخاطبه المختار: أنت السنوسي الوحيد الذي بقي بالبلد، وهذه هي الحال. ثم يتوجه المختار إلى رفاقه الشعث بملابسهم المهترئة ويقول: انظروا إليه؟! ليرد محمد رضا بصوت خفيض وهو يواري وجهه: لكن أسرتي حاربت. ليرد عليه المختار بحزم: حفاظًا على امتيازاتكم، أين أنتم الآن؟ ليتدخل الشارف الغرياني مخاطبًا المختار: يا صاحبي إنهم حكومة هذا البلد (الاستسلام للأمر الواقع)، لكن المختار يرى الوضع من زاوية أخرى: يأخذونها في النهار، ونستردها في الليل.

يطور الشارف الغرياني من حواره وينتقل من مرحلة الجزرة إلى مرحلة تحطيم المعنويات: يا عمر أنت وحيد (بالطبع إذا حسبت العملاء ومن استسلم للحكومة الغازية ومن يعمل عندها)، وقُطعت عنك السبل عن بقية البلد، وعُزلت عن بقية العالم، في عصبة الأمم يرفضون الكلام، وإذا تكلموا يرفضون السماع، ولا أحد يهتم. ليرد المختار: هذه المعركة لا نحاربها في عصبة الأمم، هذه المعركة نحاربها هنا على هذه الأرض.

يستمر الغرياني في تثبيط المعنويات ومحاولة كسر إرادة القتال لدى المختار وأصحابه: عمر، لن تقوى على هذه الحرب، دمك إزاء فولاذهم (موازين القوة مختلة). ليرد المختار الواثق بربه: لكل امرئ يومان؛ يومه هو، ويوم أولاده (لماذا يريدون قطع هذه السلسلة؟).

لينتقل الغرياني إلى مستوى آخر من الضغط النفسي وهو تحميل المختار مسؤولية الموت والدمار في ليبيا: أولادك ضحايا الجوع والحصار في معسكرات الاعتقال، يموتون لأنك تصر على القتال! (ليس الإيطاليون المحتلون المجرمون هم السبب!). ليرد المختار بحزن: نعم، إنهم رهائن هذه الحرب (خصوصا أمام عدو مجرم لا يقيم وزنا للحياة). ويؤكد بنبرة الواثق: لكن لا أحد منهم يخونني، أو يطالبني بالاستسلام، لأنهم يعرفون أن استسلامي خيانة لهم.

يعود الغرياني لأسلوب دغدغة العواطف: عمر، لقد نشأنا معًا، ألا تذكر قبل سبعين عاما كنا أطفالًا معًا. ليرد المختار: نعم أذكر، وانظر الآن كم ابتعدنا عن بعضنا. وبلهجة حانية! يقول الغرياني: ربما هذه آخر فرصة لك لتطلب السلام الشريف!! هذه الكلمة استفزت الشيخ الوقور: يسلبون أرضنا، يدمرون بيوتنا، يقتلون الأبرياء وتسمي ذلك بالسلام! لييأس الغرياني ويقول لأصحابه: إذاً فلنعد.

وبالفعل فقد عاد الشارف الغرياني ومحمد رضا إلى أحضان الطليان المحتلين غير عابئين بدماء وحصار أطفال ليبيا؛ لأن الهدف لم يكن حقن دمائهم بقدر كسر المقاومة وإخضاعها. وعاد المختار وعصابته القليلة إلى الجبال لإكمال المشوار.

وقد كانت تلك لعبة إيطالية لكسب مزيد من الوقت لإخضاع المناطق التي يسيطر عليها المختار، وليتوج جهاد المختار بالشهادة على عود المشنقة، وليتوج جهاده تحريرا لليبيا بعد أن قدم الشعب الليبي الذي آمن برسالة المختار الضحايا تلو الضحايا، وليندثر ذكر الشارف الغرياني ومحمد رضا ليذهبوا إلى مزبلة التاريخ، ولتلهج الألسن حتى اليوم بذكر العجوز عمر المختار.

ربما لا يكون المقطع موثقا تاريخيا، وربما لا يكون دقيقا بل كان مجرد ضرورة درامية، لكنه ليس مستبعدا أبدا، وهو يحدث دائما، وإن بصور شتى، في ظل جميع الثورات التحررية في حالة ضعفها وتفوّق العدو عليها.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق