في عام 1953 نشر هوارد بوين كتابه الموسوم «المسؤوليات الاجتماعية لرجل الأعمال»، والذي يعتبر من أبرز الأطروحات التي حولت مناقشات مفهوم (المسؤولية الاجتماعية للأعمال) إلى الأطر النظرية، حيث حاول بوين في كتابه تتبع منشأ (السلوك الأخلاقي) للشركات تجاه المجتمع، والكيفية التي يمكن أن أن يتحول فيها ذلك السلوك إلى (مسؤولية اجتماعية) تدخل في الأطر الاستراتيجية، وتوجه بعض عمليات اتخاذ القرار على مستوى المؤسسة. ومن قبل أطروحة بوين وتحديدًا قبل بدايات القرن العشرين كانت هناك بعض الأفكار والممارسات التي تدور في رحى هذا المفهوم، وتناقش الكيفية التي تتجاوز فيها الشركات والأعمال ورجال الأعمال فكرة تمحور أعمالهم حول (الربح) إلى فكرة المساهمة الاجتماعية؛ وقد أسس بعض الرواد من رجال الأعمال أفكارًا نظامية لتلك المساهمة، تمثلت في الطريقة التي نظّموا فيها تبرعات شركاتهم وأعمالها الخيرية، ومن أبرز التنظيمات التي تتخذ كنماذج بارزة للتعريف بنشأة هذا المفهوم ما بعد بدايات القرن العشرين نموذج عائلة روكفلر الذي أثمر لاحقًا تنظيم ذلك في صندوق The Rockefeller Brothers Fund في عام 1940 ويعد من النماذج التأسيسية للمفاهيم الجديدة في سياق المسؤولية الاجتماعية. ومنذ بداية سبعينيات القرن الفائت بدأت الدول والمنظمات تهتم بضرورة وضع أطر تحدد مبادئ المسؤولية الاجتماعية لعالم الأعمال؛ فظهرت مبادرة Global Reporting Initiative (GRI) ثم بدأ يظهر إلى النقاشات مفهوم الحوكمة الثلاثية التي تتمحور حول المسؤولية تجاه البيئة والمجتمع وأسس حوكمة الأعمال (ESG). كما بدأت بعض المؤسسات تتخلى عن مفهوم المسؤولية الاجتماعية لصالح مفهوم (الاستثمار الاجتماعي)؛ والذي يحمل في فحواه اتجاها نحو توجيه الموارد المادية لتنمية قطاع اجتماعي معين بحيث يحقق عوائد اجتماعية واقتصادية في الآن ذاته، كالاستثمار في تعليم وتدريب وتنمية قدرات فئات معينة من الشباب وتأهيلهم للأعمال الريادية، أو في بناء حاضنات تقنية وابتكارية، أو في تأسيس مؤسسات اجتماعية يعود الهدف منها لتعزيز قيم المجتمع وتماسكه. وطوال تاريخ هذه المهام كانت تبرز في النقاشات بعض القضايا والجدليات، التي تستدعي بين حين وآخر تطوير المفاهيم والمعايير والمحكات والممارسات، وتلعب السياقات التشريعية والاقتصادية والاجتماعية أدوارًا مهمة في توجيه مفاهيم (المسؤولية والاستثمار الاجتماعي) للمؤسسات وقطاع الأعمال عمومًا. ومن بين الجدليات التي تظهر بين حين وآخر فكرة: هل لا بد من المراهنة على أن تكون المسؤولية الاجتماعية جزءا من التزام (طوعي/ أخلاقي) أم لا بد من تأطيرها قانونيًا؟ وهل لا بد أن تكون المشروعات والمساهمات الموجهة للمسؤولية الاجتماعية ذات طابع نفعي أم أنها مجرد عطاءات للمجتمع؟ ومن الذي يجب أن يحدد أولويات المجتمع في مساهمة تلك المؤسسات؟ وغيرها من الجدليات التي حملت في أطرها النظرية آراء متباينة. وإن كانت المسؤولية الاجتماعية في فحواها موجهة للموازنة بين (الربح الاقتصادي) و(الاستدامة الاجتماعية والبيئية) فإننا نعتقد أن هذا المفهوم يجب أن يتوسع اليوم ليشمل أبعادًا تتسق مع الأدوار المطلوبة تجاه المجتمعات والأفراد على حد سواء، وذلك ليصل المفهوم إلى نضجه التام والمكتمل. ويمكن أن نقسم تلك الأبعاد إلى ثلاثة أبعاد رئيسية: (المسؤولية تجاه الأفراد - المسؤولية تجاه السياسات - المسؤولية تجاه المستقبل).
ففي بعد المسؤولية تجاه الأفراد تبرز اليوم في بيئات العمل جملة من المعضلات النفسية والصحية والاجتماعية (عالميًا)، فعلى سبيل المثال هناك تزايد لحالة (الإرهاق والاحتراق الوظيفي) بشكل غير مسبوق عالميًا، ففي استطلاع Gallup لعام 2023 حول «State of the Global Workplace Report» أفاد 44% من الموظفين المستطلعة آراؤهم عالميًا أنهم واجهوا قدرًا كبيرًا من التوتر في اليوم السابق. كما تشير دراسات McKinsey Health Institute في 2023 إلى أن معدلات الاحتراق الوظيفي لدى العاملين في بعض القطاعات الحيوية (مثل الصحة والتعليم) تصل إلى أكثر من 50%. وهو ما دفع إلى نقاش موسع في منظمة الصحة العالمية إلى فكرة تصنيف (الإجهاد والاحتراق الوظيفي) كـ«ظاهرة مهنية» ضمن التصنيف الدولي للأمراض ICD-11. اليوم المؤسسات في جزء من مسؤولياتها تعنى بالضرورة بتوفير البيئة النفسية والصحية والاجتماعية الآمنة لموظفيها - وفي تقديرنا فإن ذلك لا ينفصل عن مفهوم المسؤولية الاجتماعية في ذاته - بل يستوجب أن تحدد له المعايير التي تقيسه، وتساؤل المؤسسات عليه. ولتحقيق إطار منهجي لهذا البعد من أبعاد المسؤولية الاجتماعية يمكن النظر في عدة اعتبارات أساسية يمكن أن نصوغها في شكل أسئلة: إلى أي مدى توفر المؤسسة الدعم النفسي والاجتماعي للموظفين؟ وإلى أي مدى تراعي سياساتها الداخلية السلامة النفسية للعاملين فيها؟ وكيف تدعم سياسات العمل في المؤسسات تحقيق التوازن الثلاثي (عمل - أسرة - حياة شخصية)؟ وهل تتحقق ضمن معايير العمل في المؤسسات محددات تدعم ترابط فريق العمل وانسجامه وهل توجد محددات لدرء الخلافات الناشئة في بيئة العمل؟ هل الأنظمة المعمول بها في الشركة تساعد الأفراد على الاندماج مع أقرانهم بشكل إيجابي؟ هل تساهم الشركة عبر أنشطتها في اندماج أفرادها في المجتمع أم أنها تحيّدهم عن أنشطته وفعالياته وحركته؟ ما مدى وجود مرونة اجتماعية للعاملين في بيئة العمل؟ وإلى أي مدى يعزز برنامج الانتماء المؤسسي انتماء أفراد المؤسسة إلى مجموعة اجتماعية داعمة ومحفزة؟ كيف يتفاعل العاملون في المؤسسة مع القيادة؟ وهل توفر لهم الدعم اللازم للانسجام في المجموعة؟ ما مدى وجود محددات لتقدير الجهود والمكافآت العدالة والحوافز داخل المؤسسة؟ وما مدى كفاءة تلك المحددات في تحقيق الرضا الوظيفي؟ ويمكن إضافة قائمة تفصيلية بالمعايير والمحكات التي يمكن أن تكشف عن هذا الجانب المهم في تقديرنا لدعم المسؤولية الاجتماعية.
إن المجتمع إنما هو بأفراده، وإن ديمومته وتنميته والمسؤولية تجاهه إنما تنطلق من المسؤولية تجاه إيجاد أفراد أصحاء نفسيًا، قادرين على الاندماج العادل في مجتمعاتهم، والمساهمة في توازنه، وعليه لا يمكن عزل مسؤولية المؤسسات تجاه المجتمع دونما النظر لمسؤوليتها تجاه موظفيها الذين هم في الأساس كائنات اجتماعية تؤثر وتتأثر بالحركة الاجتماعية. وسنستكمل في الجزء الثاني من هذه المقالة أبعاد المسؤولية المقترحة تجاه السياسات وتجاه المستقبل.
مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية فـي سلطنة عُمان
0 تعليق