لا تتوقف آداب أمريكا اللاتينية عن إثارة دهشتنا، منذ أن انفجرت تلك «القنبلة» (الأدبية بالطبع) فـي ستينيات القرن الماضي، والتي أفضت إلى أسماء عرفت كيف تصوغ مشهدا أدبيا مخالفا، لا يزال صداه يتردد لغاية اليوم. لكن بالطبع، لا يقتصر هذا الأدب على تلك الأسماء، بل ثمة تجدد لا ينفك عن توليد كتابات أخرى، لافتة، تفترق عن سابقاتها، لتحفر لنفسها مكانتها المميزة.
من هذه الأسماء اللافتة، الجديدة، الروائية الأرجنتينية سيلفا ألمادا (مواليد العام 1973) التي عرفت كيف تصوغ عالمها مع رواياتها الأربع القصيرة (لا تتجاوز أكبرها الــ 150 صفحة)، وهي «الشبّان الموتى» و«تحت العجلة الكبيرة» و«بعد العاصفة» و«هذا ليس نهرا» وهي أحدث ما صدر لها (وأعتمد هنا على الترجمة الفرنسية الصادرة حديثا عن منشورات «ميتاييه» فـي 128 صفحة).
تبدأ الرواية من رحلة صيد بين صديقين، حيث يتمكنا من «قتل» سمكة عملاقة ــ تحمل اسم «شيطان البحر»، حيث يطلق عليها واحد منهما ثلاث رصاصات، ما يثير استغراب زميله الذي يوبخه قائلا «رصاصة واحدة تكفـي». وبعد قتال عنيف، ينجحان فـي الإمساك بها ليعرضا غنيمتهما بسلام. لكن هل فعلا ثمة سلام فـي الأمر؟ لقد أثار عملهما استغراب السكان وغضبهم، ما دفعهم إلى التساؤل عن قتل هذا الحيوان من دون أي سبب، وعن سبب عنادهما فـي ارتكاب ما ارتكباه. هكذا هي بداية «هذا ليس نهرا» الذي سرعان ما يتحول إلى أرض للصراع تتصادم فـيها رؤيتان للحياة والطبيعة.
ثمة، من بين سكان تلك الأرض، من كان ينظر إلى النهر على أنه مكان للترفـيه أو أيضا تهديد دائم ــ حيث يظهر الخوف من الغرق فـي أحلامهم. وهناك أيضا الذين يجدون أن المكان هذا، هو هذه البيئة التي تشكل حياتهم، التي هي بمثابة بيتهم الحقيقي. فالنهر ليس نهرًا: «إذا مدّ المرء بصره نحو منحدر الشارع، فهو يستطيع أن يرى النهر. بريقٌ يُدمع العينين. وهنا أيضًا: إنه ليس نهرًا، إنه ذلك النهر. لقد قضوا وقتًا أطول بكثير برفقته من أي شخص آخر. إذًا. من أعطاهم الحق فـي ذلك! لم تكن سمكة رقيطة. بل كانت تلك الرقيطة. وحشٌ بديع، مُلقىً فـي الوحل فـي قاع الماء «...». مُنتزعًا من النهر ثم عاد إليه. ميتًا».
ما ترمي إليه الكاتبة، الإشارة إلى عملية غزو الأراضي ونهبها فقط لأنها موجودة ومتاحة ومن دون حدود. «إنه جسد تغلب عليه الذكورية»، كما تقول ألمادا فـي إحدى مقابلاتها الصحافـية (*)، من خلال هذا العنف الذي يبدو أنه أساس العلاقات بين البشر. ومن خلال الرغبة فـي فهم الروابط بينهما، وتأثيراتهما، ومشاعرهما المكبوتة فـي كثير من الأحيان، بدأت «ثلاثيتها غير الإرادية» المكرسة للكون الذكوري، والتحالفات والاتفاقيات التي أسسته. من هنا تشكل رواية «هذا ليس نهرًا»، الأغنية الختامية لكل من روايتي «بعد العاصفة» و«تحت العجلة الكبيرة».
وبرغم أن العنف حاضر بقوة، فإن هؤلاء البشر، الذين يعيشون فـي بيئة ريفـية متواضعة، بل وحتى محفوفة بالمخاطر، يظهرون فـي تعقيداتهم وتفاصيلهم الدقيقة، بعيدًا عن المنظور النمطي الذي من شأنه أن يختزلهم إلى وحوش: إنهم معادون للأجانب وفـي الوقت عينه قادرون على الحنان الحقيقي والإخلاص تجاه الطبيعة. كذلك تحتل الصداقة أيضًا مكانة مركزية فـي الكتاب، لا سيما من خلال ذكرى الصديق المتوفى، يوزيبيو، التي تعمل لحظات الصيد التي تقاسمها مع ابنه، تيلو، على تنميتها وإطالتها. بين الثلاثة، إينرو، إلنيجرو، وتيلو الشاب، تنشأ رابطة حول النهر، تستكشفها الرواية بدقة.
من قرأ لألمادا سابقا، يدرك إلى أي مدى تأتي كتابتها دقيقة، حتى لتصبح على درجة كبيرة من الاقتصاد حتى فـي وسائل السرد، إنها هذه اللغة التي تتحدث عن تلك المنطقة بدقة أولئك الذين عاشوها عن كثب. وبما أن الكاتبة تنتمي إلى منطقة إنتري ريوس، البعيدة عن بوينس آيرس، فقد استطاعت أن تجد فـي هذه المناظر الطبيعية وفـي لغة سكانها الطريقة التي تستطيع من خلالها تمثيلها دون الإطناب الخلاب. إذ إنها، ولفترة طويلة، وخوفًا من الوقوع فـي أدب إقليمي مستوحى من الصور النمطية، نجدها ترفض الاقتراب من ذلك، لتفضل الموضوعات الأكثر حضرية إذ تعتبرها أكثر أدبية. من هنا، تسعى كتابتها إلى تتبع إيقاع النهر، وتعرجاته ودواماته، من خلال العديد من اللقطات الماضية، واحتضان شكل الماء من خلال غياب الفصول، عبر جُمل فـي حالة من التدفق المستمر، من خلال هذه التيارات الجوفـية التي تعبر عن تبادلات الشخصيات مع الكلمات غير المنطوقة.
قد يكون أسلوب ألمادا هو الذي يميزها عن غيرها من الكتّاب والأساليب، وهو ما يسمح لنا بالتعرف عليها بشكل أفضل. أسلوب يأتي بمثابة دعوة للنظر إلى الحياة اليومية بشكل مختلف، لاكتشاف علامات التحذير من سوء الحظ، حيث يبدو أن التهديد يثقل كاهل هذا الكون باستمرار، بين الرتابة والأفراح الصغيرة، قبل أن ينكسر الهدوء العادي باندلاع العنف أو الموت. من دون أن ننسى قصص الأشباح التي تملأ الرواية والشخصيات: كابوس الرجل الغريق الذي يطارد إينرو منذ طفولته، وقصة شقيقتين صغيرتين توفـيتا فـي حادث سيارة، ثم عادتا لتطاردا الجزيرة.
يسود مناخ غير واقعي فـي الكتاب، مما يثير التساؤلات حول تصنيفات «الخيالي» أو «الواقعي». لا يوجد شيء فـي كتابات سيلفا ألمادا يجعلها أقرب إلى الواقعية السحرية. بل إننا نجد ولاءً لطريقة رؤية العالم الخاصة بهذه المناطق حيث تتعايش المعتقدات الوثنية والكاثوليكية والإنجيلية: فلا يوجد شيء أكثر طبيعية من استشارة الطبيب والمعالج؛ لا يوجد شيء أكثر طبيعية من السماح لنفسك بأن تسكنها هذه القصص عن الأرواح التي تقسم الواقع وتفتح على أبعاد أخرى منه. الذي، مثل الرجل الغريق، يجبرنا على فتح أعيننا، ليدهشنا مرة أخرى: عندما جرفه النهر، لا بدّ أن أوزيبيو قد فتح عينيه فـي سواد كثيف، كهذا. هل رأى النور أخيرًا؟ يتذكر عينيه جاحظتين من محجريهما عندما استعادوا الجثة. كما لو أنه، قبيل موته، رأى شيئًا هائلًا لدرجة أن بصره لم يكن كافـيًا لاستيعابه تمامًا. ولكن ماذا عساه أن يكون؟ شيئًا هائلًا جدًا، أجل. ولكنه فظيع جدًا أيضًا؟ أو جميل جدًا».
تقودنا سيلفا ألمادا، فـي جميع كتبها، إلى هذه النقطة المتوترة بين الجمال والرعب، حيث كل شيء قابل للتغيير، وتدعونا إلى إلقاء نظرة مختلفة على العالم.
يمكن مشاهدة هذه المقابلة على الرابط التالي:
()
0 تعليق