وهم الوضع الراهن هو وصفة لكارثة أخرى

الغد 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

loading ad...

 شاؤول ارئيلي وماعوز روزنطال

في الوقت الذي فيه الاهتمام العام ينصب على الحرب المتجددة في قطاع غزة، لبنان، سورية واليمن، بقيادة حكومة إسرائيل القومية المتطرفة – المسيحانية، إلى جانب محاولة إقالة حراس العتبة، وهي العملية الخطيرة جدا التي يتم تسريعها تحت رادار الاخبار. إسرائيل تسير بسرعة نحو الضم وفقدان الهوية كدولة يهودية وديمقراطية. هذه ليست نبوءة غضب لنهاية العالم، بل هي إدراك يرتكز إلى تحليل منهجي وثابت للخطاب السياسي في إسرائيل حول موضوع النزاع بين إسرائيل والفلسطينيين.اضافة اعلان
بحث شامل أجري مؤخرا، يرتكز إلى تحليل 15 ألف منشور في شبكة "اكس" (تويتر) لرؤساء الاحزاب الإسرائيلية من العام 2018 وحتى نهاية العام 2024، يكشف الاكاذيب التي توجد في نظرية "الوضع الراهن" – الوهم المريح والمعروف للجمهور في إسرائيل كـ "ادارة النزاع". تحت غطاء ادارة الازمات الدارجة فان إسرائيل تسير بخطى ثابتة نحو ضم المناطق وفرض سيادة إسرائيل عليها. وهي العملية التي ستقرر مصيرها كدولة ابرتهايد أو كدولة ثنائية القومية.
البيانات تتحدث بوضوح مقلق: من بين الـ 15.135 منشور التي تم تحليلها، 9692 تطرقت إلى الوضع الراهن، مقابل عدد قليل من المنشورات التي تطرقت إلى بدائل سياسية بعيدة المدى: 886 للانفصال، 848 للضم، فقط 333 لاتفاق الدولتين. المعنى واضح، المؤسسة السياسية تفضل تطوير وهم الوضع الراهن، الذي ليس إلا قناع للضم الزاحف. هذه آلية خداع ذاتي وجماعي، تمكن الجمهور من الاعتقاد بأن الوضع الحالي يمكن أن يستمر إلى الأبد، في حين أنه بالفعل كل يوم يدفع إسرائيل نحو واقع الدولة الواحدة، الذي لا يمكن التراجع عنه. في حين أن الجمهور اسير لوهم "الوضع الراهن" فان اليمين المسيحاني القومي – المتطرف يعمل على الدفع قدما نحو واقع الدولة الواحدة.         
التحليل يكشف توزيع "المنطقة الايديولوجية" بين المعسكرات السياسية في إسرائيل. بتسلئيل سموتريتش يقود خطاب الضم مع 143 اشارة مع مستوى تأييد مطلق تقريبا. ايتمار بن غفير يعرض دعم كامل للضم، وبنيامين نتنياهو أيضا، رغم أنه من اجل الاعلان الدولي يغطي على مواقفه الحقيقية تحت غطاء "أنا لا صلة لي بذلك"، يظهر دعمه الكامل للضم عندما يطلب منه التعليق على الموضوع.
من المفاجيء، لكن ربما غير مفاجئ جدا، اكتشاف أن اسحق غولدكنوفف، رئيس حزب حريدي، شريك ايديولوجي نشيط لسموتريتش وبن غفير. هذا تأكيد آخر على تحالف مصالح بين المسيحانية الجديدة، الدينية القومية – المتطرفة، وبين الارثوذكسية الحريدية، تحالف يعرض الطابع العلماني – الليبرالي لإسرائيل إلى الخطر.
في المعسكر الثاني يئير لبيد يقود الخطاب حول امكانية عقد اتفاق سياسي مع 83 اشارة، نصف الاشارات في هذه الفئة. يئير غولان وايمن عودة، اللذان يمثلان الطرف اليساري الاقصى في الطيف، يؤيدان بشكل ثابت حل الدولتين والانفصال. ولكن صوتهما آخذ في الخفوت في المشهد السياسي الآخذ في التطرف. بني غانتس يستمر في التمسك بخطاب الوضع الراهن (637 اشارة)، فقط احيانا يصرح في صالح الاتفاق السياسي. هذا مؤشر واضح على امتناع كبار السياسيين في إسرائيل عن مواجهة الحاجة إلى اتخاذ قرار استراتيجي شجاع.
الظاهرة الممتعة التي كشفها البحث هي استخدام مفهوم "الانفصال" – كلمة السحر التي تسمح بكل شيء ولا شيء - من قبل جميع المعسكرات السياسية تقريبا، في حين أنه يوجد لكل معسكر التفسير الخاص لهذا المفهوم. بالنسبة لعودة وغولان فان الانفصال هو اساس الانفصال السياسي والجغرافي، الذي سيؤدي إلى دولتين، لبيد وغانتس يعدان الانفصال خطوة يمكن أن تضمن اكثرية يهودية في دولة ديمقراطية. في حين أن سموتريتش وبن غفير يفسران الانفصال بأنه انفصال عرقي بدون تنازلات إقليمية، الامر الذي يعني عزل الفلسطينيين تحت السيادة الإسرائيلية.
هذا تمرين كلاسيكي في فلسفة السياسة لجورج اورويل، نفس الكلمة تستخدم لوصف احلام متناقضة كليا، مع خلق وهم لاتفاق واسع. في الواقع مفهوم "انفصال" ليس إلا وهم له دلالات، يمكن من استمرار المماطلة والتهرب من اتخاذ القرارات. خلافا لما كان يمكن توقعه فان احداث 7 اكتوبر لم تؤد إلى مراجعة استراتيجية بشأن فشل سياسة "ادارة النزاع". بالعكس، هي استخدمت بالذات كمسرع لزيادة التطرف في المواقف وتعزز الخطاب الامني قصير المدى.
الدليل على ذلك هو أن 53.5 % من المنشورات التي تؤيد الضم نشرت منذ اكتوبر 2023. الحوار حول الوضع الراهن تقريبا تضاعف، من 1451 منشورا مع قبل تشرين الاول 2023 إلى 2658 منشورا مع بعد ذلك. تأييد الانفصال، في المقابل، انخفض 24 %. هذا يعد تناقضا مقلقا بشكل خاص. بالذات الحدث الذي كشف فشل سياسة إدارة النزاع أدى إلى تعزز الخطاب الذي يؤيد هذه السياسة الفاشلة. إسرائيل تتصرف مثل المدمن الذي يقف امام حوض مكسور، لكن بدلا من الفطام من الادمان على وهم الوضع الراهن هي تقوم بزيادة الجرعة.
الربع الاخير في 2024 يوفر لنا صورة وضع محدثة للخطاب السياسي. فرغم انخفاض حجم الخطاب حول النزاع (1097 منشور مقابل 1260 منشورا في نفس الربع في السنة السابقة) فان توجه التطرف والاستقطاب يتعزز. 96 % من المنشورات التي تطرقت إلى الضم تؤيده – نسبة مقلقة تدل على الإجماع الآخذ في التبلور في اوساط الذين يتعاملون مع الموضوع. نتنياهو في تمرين في مناورة معروفة تتمثل بـ "النفي المتعمد" امتنع في الربع الاخير من نشر منشورات حول الضم. هذه عملية مكشوفة تستهدف الحفاظ على الغموض الذي هو بحاجة اليه في الساحة الدولية.
في موازاة ذلك، غولدكنوفف ينحرف عن التيار العام التقليدي للحريديين ويطرح موقف يميني واضح حول الضم، وهو إشارة مقلقة اخرى على التطرف العام في المنظومة السياسية. لبيد، غولان وعودة، يستمرون في التمسك بمقاربة الاتفاق السياسي والانفصال، لكن صوتهم يضمر في الخطاب العام للجمهور.
الباحثون في النزاعات يحذرون من أن نقطة اللاعودة في النزاع بين إسرائيل والفلسطينيين ليست موضوع نظري، بل هي عتبة حقيقية تقترب منها إسرائيل بسرعة. تقرير للأمم المتحدة صدر في 2017 اشار إلى أن الصراع يقترب من "نقطة اللاعودة" وأن التوجهات منذ ذلك الحين ازدادت حدتها.
الوضع الديمغرافي والجيوسياسي ووضع البنى التحتية في المناطق خلق وضع بحسبه الانفصال المادي بين المجموعات السكانية أصبح محتملا، لكن بثمن آخذ في الازدياد. الفلسطينيون في الضفة الغربية يبلغ عددهم حوالي 3.2 مليون شخص، لكن شبكة الطرق التي أقامتها وتقيمها إسرائيل خلقت واقع حبس الفلسطينيين بين المستوطنات التي اضيفت اليها بؤر استيطانية غير قانونية، بالأساس على شاكلة المزارع. في هذا الوضع فإن التمسك بالوضع الراهن هو اختيار سلبي لمسار يؤدي إلى واقع الدولة الواحدة، وهو الواقع الذي ستضطر إسرائيل إلى الاختيار فيه بين الطابع اليهودي والطابع الديمقراطي.
النخبة السياسية في إسرائيل بقيادة نتنياهو اختارت إستراتيجية تأجيل القرارات الحاسمة والتملص من الاختيارات الصعبة. ولكن المفارقة هي أن محاولة الامتناع عن الاختيار هو ما أدى إلى أحداث 7 تشرين أول (اكتوبر) وسيؤدي إلى ضياع الدولة اليهودية والديمقراطية. القانون الحديدي للوضع الديمغرافي لا يسمح لإسرائيل بمواصلة السيطرة على ملايين الفلسطينيين بدون إعطاء الحقوق المدنية والسياسية، من غير أن تصبح دولة ابرتهايد. في المقابل، اعطاء حقوق كاملة للفلسطينيين سيغير بشكل جوهري طابع الدولة اليهودي. الاختيار المتملص للوضع الراهن هو التدهور البطيء، لكن المضمون، نحو الهاوية. بالذات في فترة هزة جيوسياسية إسرائيل بحاجة إلى قيادة شجاعة تكون مستعدة للقيام بالاختيارات الصعبة المطلوبة لضمان مستقبلها كدولة يهودية وديمقراطية.
الانفصال عن الفلسطينيين وإقامة دولتين لشعبين هو الحل الوحيد الذي سيضمن مستقبل إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية. وأي حل آخر يمثل نسخة معينة من النفي هو وهم ذاتي أو خداع للنفس. كلما بكرنا في الاستيقاظ فان الثمن الوطني الذي سندفعه سيقل.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق