انقضى الأسبوع الماضي رمضان، وأخذ معه لياليه العامرة بصلاة التراويح والقيام، حيث ارتفعت أصوات القرّاء من المآذن لتلامس السماء بخشوعها، وكأنها تذكّرنا أن هناك أشياء في الحياة ستظل بعيدة عن منافسة التكنولوجيا، مهما تقدمت ومهما بلغ ذكاؤها.
وبينما نحن في هذا الجو الروحاني الجميل، كانت أخبار الذكاء الاصطناعي تزاحمنا يومياً وكأنها تحذّرنا من أن وظائفنا جميعاً قد تُسرق قريباً. خصوصاً أنت يا عزيزي المسؤول الذي تعتمد على الواسطة ومهارات موظفيك، ثم تنسب نجاحهم إلى عبقريتك الوهمية؛ قد تجد نفسك يوماً في قوائم البطالة؛ بسبب تطور هذه التقنية «الشريرة».
قبل فترة ليست ببعيدة، ظهر علينا بيل غيتس، مؤسس مايكروسوفت المعروف، ليلقي علينا قنبلة تقنية مخيفة بقوله إن الذكاء الاصطناعي سيجعل المعرفة متاحة مجاناً للجميع، أي ستكون متوافرة مثل التمر في إفطار الصائمين. يا له من خبر سار للجميع، إلا لك طبعاً أيها المسؤول الذي لم يسبق له أن وافق على فكرة إلا إذا وضعتَ توقيعك الشخصي عليها في الاجتماعات (بينما يقوم شاب متدرب خلف الستار بإنجاز العمل الحقيقي!).
بالمناسبة، يقول بيل غيتس أيضاً إن هذا التحول لن يحدث تدريجياً، بل سيكون سريعاً لدرجة قد لا يستطيع المسؤولون الحاليون حتى فهم ما يحدث حولهم، فالتكنولوجيا لا تنتظر من لا يواكبها.
الغريب أنه رغم وضوح هذه الصورة، ما زال كثير منّا يصرّ على دفع أبنائه بقوة نحو مجالات الهندسة والتكنولوجيا باعتبارها «الأمان الوظيفي المطلق». صحيح أن هذا الكلام كان منطقياً قبل عشر سنوات، لكن اليوم حتى الطبيب والمعلم والمبرمج نفسه قد لا يكون في أمان كامل. فها هو الذكاء الاصطناعي يكتب أكواداً تضاهي أو ربما تتفوق على ما يكتبه الكثير من الموظفين، حتى الذين دخلوا الشركات بقوة العلاقات العائلية، وليس بقوة الكفاءة. ورغم أن الذكاء الاصطناعي لن يُنهي دور المبرمج تمامًا، إلا أنه حتمًا سيغير من طبيعة عمله بشكل كبير.
لكن دعونا نتوقف قليلاً: هل يمكن أن نشاهد روبوتاً يؤمّ الناس في صلاة القيام؟ أو برنامجاً يجعل القلوب تدمع خشوعاً وهو يقرأ القرآن في التراويح؟ لو حدث ذلك، لأسرعت هيئات الإفتاء لتحرّم الصلاة خلف «شات جي بي تي» وأخوته!
الإمامة ليست وظيفة حتى ينافس عليها الذكاء الاصطناعي، بل هي أمانة عظيمة ومسؤولية ربانية لا يُمكن للآلة أن تحملها. هي علاقة روحية صادقة، إحساس بالسكينة والخشوع يخرج من قلب حيّ ولسان مخلص، وليس من آلة معدنية بلا روح.
ولعل من الواجب علينا اليوم أن نعيد النظر في طريقة تشجيع أبنائنا على اختيار مسارات حياتهم. فبينما نتزاحم على الوظائف التي قد تسرقها منا الروبوتات، يغيب عن بالنا تشجيعهم على تحمّل مسؤوليات ربانية عظيمة مثل الإمامة؛ ليست لأن الآلة لا تستطيع تهديدها فقط، بل لأنها مسؤولية تمتد بركتها من الدنيا إلى الآخرة.
وفي رمضان القادم، ربما يكون من الجيد أن يُتاح لبعض المسؤولين أن يتفرّغوا للصلاة والقيام بهدوء خلف إمام حقيقي بخشوع، بدلاً من الانشغال في اجتماعاتهم التي تسرق جهود الآخرين وتنسبها لأنفسهم... وربما يكتشفون حينها أين يكمن النجاح الحقيقي الذي لا يُهدّده أي ذكاء اصطناعي!
* خبير تقني
0 تعليق