من التخطيط المرن إلى التخطيط المتكيف

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

لم تعد المرونة التخطيطية (Planning flexibility) مجرد سمة يستوجب أن تتلازم مع عمليات التخطيط في أزمنة عدم اليقين؛ بل أصبحت هي الأساس التي يجب أن تنطلق منه، وتتمحور حوله عمليات التخطيط جلها؛ وحين نتحدث عن التخطيط فإننا نعني كل مستوياته وميادينه؛ من تخطيط وطني إلى قطاعي إلى مؤسسي وربما حتى التخطيط الشخصي لأولئك الذين يتمرسونه. أصبح سؤال (ماذا لو؟) هو السؤال الأكثر ملازمة لأدوات التخطيط ولفرضياته وسيناريوهاته؛ وذلك نتاجًا لما تفرضه رباعية التقلب، وعدم اليقين، والغموض، والتعقيد الذي يسيطر على المشهد العالمي. نكتب هذه المقالة ليس فقط في ظرف ما يحدث اليوم من أنماط جديدة تنهجها الحكومة الأمريكية الجديدة في تدبيرها للاقتصاد والعلاقات الدولية وفي توجيهها لمشهد التبادل التجاري العالمي، بل لأن هناك جملة من المعطيات في المشهد العالمي عمومًا تتعاظم، وتتطور لحظة بلحظة، وتنشأ عن متغيراتها الكثير من التحولات التي توجه مسارات التخطيط إلى مسارات غير متوقعة، وهذه المعطيات متعددة ولكنها -حسب تقديرنا- تتمحور حول (10) معطيات أساسية: أولها: صراع الهيمنة التجارية والإنتاجية حول العالم وما ينشأ عنه من حروب تجارية، وثانيها: الصراعات الجيوسياسية ورغبة النفوذ العالمي، وثالثها: الصراع حول الموارد باختلافها متجددة أو ناضبة، ورابعها: تضاؤل الثقة العالمية في المؤسسات؛ سواء كانت تلك المؤسسات دولية أو إقليمية أو محلية؛ وخامسها: الصراع حول الطبقة الاجتماعية؛ وما ينشأ عنه من تركز الثروات وعدم تكافؤ الطبقات الاجتماعية، وصعوبة احتواء سياسات العدالة الاجتماعية للمتغير الاجتماعي، وسادسها: المتغير السكاني واختلاف أحواله عبر دول العالم، وسابعها: الطلب على أسواق العمل وبناء المهارات، وثامنها: صراع السيطرة على التقانة وتوجيهها وأدلجتها، وتاسعها: صراع النفوذ الثقافي العالمي بمختلف أدواته ووسائله ومحكاته، وعاشرها: صراع التوقعات الاجتماعية وتباينات الأجيال، كل هذه المعطيات تفرز بشكل لحظي متغيرات جديدة تفترض بالعالم استيعابها، وتفترض بالقيمين على التخطيط تضمينها ضمن إطار مرن وتكيفي.لذلك أصبح التخطيط المتكيف (Adaptive planning) متطلبًا ضروريًّا كنهج رئيسي لكافة مستويات التخطيط، وهو يتجاوز سمة المرونة إلى اعتماد ثلاث فرضيات أساسية:

• اعتبار التغير وعدم الثبات سمة رئيسية للعالم (البيئة التخطيطية) التي نتعامل معها.

• الظروف المتغيرة ليست حالات استثنائية يجب إدارة مخاطرها، وإنما هي فرص لتعزيز تنافسيتنا.

• في حالات التغيرات العميقة لا نستهدف مجرد الحفاظ على كفاءة الأداء المتوقع، بل تعزيز الأداء والفرص.

يقول عالم المستقبليات بيتر شوارتز «التخطيط التكيفي هو فن التفكير في المستقبل بصيغة الجمع. تنهار الخطط الجامدة عندما لا يتصرف العالم كما ينبغي. أما الأنظمة التكيفية -باستخدام منطق السيناريوهات- فلا تتنبأ بالمستقبل؛ بل تستعد له». وهذا يقودنا لسؤال: ما متطلبات التخطيط التكيفي؟ وفي الواقع هي ستة متطلبات رئيسية: أولها: وجود السيناريوهات؛ والسيناريوهات ليست مجرد «تخمينات» تتدرج من الوضع الأمثل إلى الوضع الأسوأ؛ بل هي نتاجٌ لتحليلات تاريخية وحاضرة، تضع في الاعتبار كافة المعطيات والعوامل المؤثرة على مسار التخطيط، وتفترض كافة ما قد ينشأ، كما أنها تفترض أعلى درجات قدرة النظام على تحقيق أهدافه، وأدنى درجات قصور النظام في تحقيق أهدافه، وبذلك هي تضع بدائل مباشرة وعقلانية لمسار العملية التخطيطية، وتزداد أعداد البدائل (السيناريوهات) المطروحة بزيادة (تعقيد النظام/ الظاهرة)، وبزيادة كفاءة المنظومة التخطيطية؛ فلا ريب إن وجدنا أن بعض منظومات التخطيط قد وصلت إلى وضع أكثر من (50) سيناريو مختلفًا لعمليات التخطيط المستهدفة، مقرونة بالأدوات وبرامج التنفيذ والتمويل وإدارة المخاطر والمتابعة والتقييم. السيناريوهات عمومًا هي مؤشر لقدرة نظام التخطيط على بعدي (التفكير/ التدبير). المتطلب الثاني: هو التقييم الملازم (Inherent evaluation)، والفكرة منه أن لا تكون عمليات التقييم عمليات لاحقة تجرى بمعزل عن ظروف وحيثيات ومسارات التخطيط، بل هي تقييمات تبتدئ وتتلازم مع مسارات التخطيط والتنفيذ، وتمتد إلى تقييم وكفاءة إعداد الخطط ومنظومات التخطيط نفسها، وكفاءة السيناريوهات الموضوعة، وهو ما يمكن بشكل مباشر من استدراك الفجوات ونقاط الخلل في منظومة التخطيط عمومًا. أما المتطلب الثالث: فهو وجود نظام كفؤ لإدارة المخاطر، واستثمار الفرص، وهو ما يتشكل في توزع نظم الإنذار المبكر لكافة قطاعات ومستهدفات الخطة، بالإضافة إلى العين البصيرة التي يمكن لها أن ترى الفرص الحقيقية والسريعة التي يمكن استثمارها والبناء عليها، ولا تفصلها عن سياق النظر إلى المخاطر. ويتشكل المتطلب الرابع في مسألة التناغم الهيكلي (Structural harmony)، والفكرة منه هي التحقق المسبق أثناء عملية التخطيط من أن كافة (النظم المؤسسية - التشريعات - الهياكل - السياسات - نظم الإجراءات) متسقة فيما بينها لتحقيق الانسجام المفضي إلى تحقيق أهداف التخطيط ومقاصده، وهذا المتطلب في حقيقته يعطل الكثير من الخطط خاصة على المستويات الوطنية. المتطلب الخامس للتخطيط المتكيف يتمثل في القدرة على التعلم المستمر للمنظومة التخطيطية من دروس مسارات التخطيط، وإجراء مقارنات معيارية (Benchmarking) دقيقة ومحكمة لأغراض التخطيط باستمرار، مع الأخذ في الاعتبار حساسية العوامل المحلية. ويتشكل المتطلب السادس في وجود ثقافة التخطيط المتكيف، وهي تلك الثقافة التي لا تجعل المؤسسات أو الكيانات أو الأفراد عمومًا يتوقفون لبرهة طويلة للتفكير في (الأزمة/ الخطر الناشئ/ التحول)، وإنما لديهم الجدارة المباشرة للانتقال للخيار التالي وتهيئة البيئات الثقافية للتعامل مع تلك الخيارات، وهو ما يجعل مسارات الاستجابة جمعية ومتناغمة. تقول كاثلين آيزنهاردت: «في البيئات عالية السرعة، تتفوق المرونة والبساطة على الخطط الشاملة. نحتاج إلى آليات تخطيط تكيفية تُمكّن صانعي القرار من التكيّف بسرعة، ولكن بحدس منضبط».

مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية فـي سلطنة عُمان

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق