بين العاطفة والعقل: كيف نؤسس لخطاب يحصن الشباب وينهض بوعيهم؟

الغد 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

loading ad...

عمان- كثيرا ما ترتكز دروس تعليم مهارات الخطابة والتنظير على "اللعب على وتر العاطفة"، إذ إن الإنسان في جوهره، كتلة من المشاعر التي تتقلب وتتأثر بنوعية الخطاب الموجه إليه، خصوصا عندما يقوم الخطاب على استمالة العواطف، لا سيما في القضايا الوطنية والقومية.اضافة اعلان
ومع الاعتماد المتزايد اليوم على الخطابات التي تُبث عبر منصات التواصل الاجتماعي، يجد الشباب ضالتهم في عوالم هذه المنصات التي تصدر خطابات متنوعة، يتكئ مطلقوها على مراجع تحرك المشاعر وتستميل القلوب، أملا في التأثير على جمهور واسع، وخصوصا من الشباب واليافعين.
ومؤخرا، تصدر الخطاب العاطفي الكثير من المنصات الافتراضية، وانعكست آثاره على الشارع المحلي والإقليمي بشكل عام. ولا شك أن الأحداث الجارية في غزة، وما تشهده من حرب دامية تستفز المشاعر، كان لها دور بارز في تعزيز الخطاب العاطفي، إذ إن ما يحدث هناك أمر يفوق قدرة القبول أو التحمل.
وبات الشباب من مختلف دول العالم يتجهون نحو منصات خطاب تعبر عن "مشاعرهم الجياشة"، وكما في كل حدث عام، تعلو العديد من الأصوات على هذه المنصات، محاولة استثمار اللحظة.
 المرجعية الأخلاقية والوطنية
وهنا، تبرز أهمية الاعتماد على وعي الشباب وقدرتهم على التمييز بين أصوات الخطاب العام، وأن تكون لديهم مراجع أخلاقية ودينية ووطنية ومجتمعية، تحفظ مسار تلك الخطابات وتحمي عواطفهم من الانجرار وراء "الأصوات الشاذة" التي قد تدعو إلى التشتت والعداء والعنصرية، أو تحاول تغيير بوصلتهم عبر اللعب على وتر العاطفة.
وفي حديثهم لـ"الغد"، تناول مختصون وخبراء الأثر الذي تتركه هذه الخطابات المختلفة على المجتمع، مؤكدين ضرورة حماية الشباب من التهور وعدم العقلانية في التعاطي معها.
وفي هذا الجانب، يؤكد الخبير والمختص في قضايا الشباب الدكتور محمود السرحان، أن إعداد ورعاية الشباب، وتكوين جيل ناضج فكريا واخلاقيا وعقليا وسلوكيا، مسألة بالغة الأهمية، لتمكينهم من أداء دورهم في خدمة أنفسهم ومجتمعهم بوعي ومسؤولية، بما يسهم في العملية التنموية الشاملة والمستدامة، بكل أبعادها السياسية والاجتماعية والشخصية والثقافية والتربوية والأمنية.
 الاحتكام إلى لغة العقل
وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال الاحتكام إلى لغة العقل والمنطق والحكمة والحوار، واستيعاب الأمور واحتوائها، وإدماج الجميع في كل ما من شأنه تحقيق مشاركة فاعلة وجادة ومسؤولة في بناء حياة ناجحة ومستقلة، بعيدا عن الإقصاء والتهميش. فالجميع شركاء في المصير والمستقبل، والجميع في مركب واحد، نجاته مرهونة بتعاونهم وتكاتفهم وتضامنهم؛ فكل فرد مسؤول.
ويؤكد السرحان أنه لم يعد هناك مجال للتأجيل أو المماطلة أو شراء الوقت، فالجميع لا يملكون ترف الانتظار. والمطلوب الآن، وليس غداً، هو تطوير لغة الخطاب الموجهة للشباب، من خلال التركيز على تنمية مهارات الحياة الأساسية العصرية، كمهارات التفكير العقلاني، والناقد، والتحليلي، والإبداعي، ومهارات الاتصال الفعال، وكسب الدعم والتأييد.
كما يشدد على أهمية التركيز على القواسم المشتركة وتعظيمها وتعميقها، والابتعاد عن نقاط الخلاف، مع ضرورة العمل الجاد والمخلص ليكون الشباب أدوات بناء وتنمية وتحديث، ومعاول إيجابية في صرح البناء المجتمعي الواحد.
ويشير السرحان إلى أنه، مهما حاولنا، لن نستطيع الخروج عن إطار العمل الجماعي، المستند إلى قيمنا الإسلامية وثوابتنا الوطنية، التي تمثل ملاذنا الأخير للحفاظ على بلدنا حرا، أبيا، عصيا على الطامعين من كل لون وملة، دون استبعاد أحد من شرف المشاركة في العملية التنموية الشاملة والمستدامة، بما يساهم في ازدهار الوطن.
محاذير تربوية.. 
البداية في حماية الشباب من الانجراف العاطفي دون وعي، يجب أن تنطلق من التربية التعليمية والأسرية، كما يوضح الاستشاري والخبير التربوي الدكتور عايش النوايسة.
ويشير النوايسة إلى أن الإعلام الرقمي اليوم، بكل صوره وأشكاله، يسهم بشكل كبير ومؤثر في تشكيل الحياة العامة للناس، من خلال تأثيره المباشر. إذ يتميز العصر الحالي بكثافة العناصر الإعلامية، وتنوع صورها، وسرعة تفاقمها وانتشارها وتداخلها، إلى درجة يصعب مجاراتها أو متابعتها.
ويشدد النوايسة على أهمية تعزيز الوعي في التعامل مع المحتوى الإعلامي، لا سيما ذلك الذي يتوجه إلى الشباب عبر مدخل العواطف، مستهدفا استمالتهم والسيطرة على فكرهم، وتوجيههم لخدمة تيارات فكرية معينة. ولهذا الخطاب تاثير عميق في تشكيل أهداف الشباب وغاياتهم، بما قد يتعارض مع غايات المجتمع وفلسفته وأهدافه، بل ومع توجهات الدولة وعلاقاتها ايضاً.
 تسليح الشباب بالوعي 
لذا لا بد من الاهتمام والسعي لتسليح الشباب بالوسائل التي تحميهم من نوعية الخطاب العاطفي والمنتشر على مواقع الاتصال الرقمي وخطره، كما يبين النوايسة، في ظل ثورة الاتصالات والمعلومات وسرعة التأثير السلبي الذي يتركه هذا الخطاب على تشكيل سلوك الشباب وميلهم إلى التطرف في أفكارهم ومعتقداتهم، لا بد إكسابهم مهارات التحليل النقدي والحوار بالأدلة والبراهين والحجج. 
كما يجب التركيز على تعليم الشباب كيفية الاستفادة من المواقع والمعلومات على شبكة الإنترنت بشكل إيجابي بناء بعيدا عن العواطف وما يرتبط بها، والتحقق من المعلومات التي تنشر عليها ومدى مصداقيتها والتمييز بين الشائعة والخبر الحقيقي وما بين وجهة النظر والمعلومات وأهمية ذلك في عالم الإنترنت والمعلومات والمجتمع الرقمي.
وكذلك لا بد من تربية الشباب سواء في المدارس أو الجامعات لكيفية التعبير عن رأيهم بشكل مسؤول وتفاعلي وتقبل الرأي والرأي الآخر وتمكينهم من تعلم كيفية إنتاج المحتوى المرئي وصحة الأخبار وأخلاقيات بث ونشر المحتوى الإعلامي والخصوصية والأمان عبر الإنترنت.
خطاب بديل عن العاطفة
ويعتقد النوايسة كذلك أن الطريقة المثلى لصناعة خطاب بديل عن الخطاب العاطفي عبر الاستناد على تربية إعلامية متقدمة والربط مع الواقع من خلال طريقة التدريس بالأحداث الجارية من حيث الربط ما بين الحدث الإعلامي والواقع الزمني، فعند إقرار قانون الجرائم الإلكترونية مثلاً، على المدرسة والمعلمين معالجة الموضوع بصورة تربوية من خلال تمكين الطلبة من أدوات التحليل والفهم لمعرفة السياق الذي أقر فيه القانون والحاجة إليه بحيث يجعل الطلبة سفراء لنقل الفكرة والحاجة للقانون وكأنهم يمثلون الجانب المعني بالقانون. 
وهذا يعني الوصول بالطلبة إلى حالة من المسؤولية المجتمعية، وهو أحد أهم أهداف التربية والتعليم، وعلى المدرسة تزويد الطلبة بالمنهج الخاص بالتعامل مع الأخبار والأحداث من خلال تمكينهم من مهارات التفكير الناقد بحيث لا يقبل الخبر أو الحدث على أنه مُسلم به فلا بد من تحليل الأفكار ونقدها وتمحيصها للوصول إلى الحقيقة ومن ثم تبنيها ونشرها.
 أهمية التربية الإعلامية 
واليوم، يشدد النوايسة على التأكيد على أهمية التربية الإعلامية ودورها الكبير في إعداد جيل ذي معرفة وفهم بقضايا الأمة ومنها القضية المصيرية وهي القضية الفلسطينية، ففي زخم الأحداث ومع سيطرة بعض الجهات "المتطرفة" على الإعلام الغربي، لا بد من توظيف طريقة الأحداث الجارية في توعية الطلبة في ما يجري من أحداث وكيفية التعاطي معها خاصة وأن هذا الجيل يوجه من خلال وسائل التواصل الاجتماعي ذات التأثير الكبير على السلوك، ولا بد من تمكينهم من فهم الواقع وتقديره، وسبل التعايش مع الآخرين، واستيعاب مقتضيات العصر الحديث، وآليات التفاعل مع العولمة، وتعبئة الشباب لمواجهة الأحداث الجارية الطارئة وغير الطارئة، وتمكينهم من المهارات التي تعينهم على المواجهة عوضاً عن الخوف والاستسلام أو الانعزال والرفض أو التبرير، أو إسقاط المشكلات علي الغير. 
كما تعنى التربية الإعلامية بمساعدة الطلاب على فهم حقوقهم وواجباتهم، وتقدير قيم الشورى، والإخلاص، وحب الوطن، والانتماء الصحيح، واحترام الآخر، والحرية العادلة، ومواجهة الإشاعات والتضليل، ومحاربة الانحرافات الفكرية والمنحرفين وفق الطرق المناسبة لذلك، وهذا يحتاج، وفق النوايسة إلى منهاج متطور قادر على استيعاب التغيرات والتطورات المتلاحقة في كافة الصعد والمجالات.
 ولا بد من الاستناد الى المنحى التكاملي في المنهاج لجعل التربية الإعلامية جزءا من تعلم وتعليم كافة المواد الدراسية وأن لا تقدم منفصلة، وهذا يحتاج إلى معلم مهني كفء معد بطريقة من خلال تمكينه من أدوات وطرق تدريس التربية الإعلامية المختلفة.
 دحض الافتراءات وتثبيت الحقائق
ينوه اختصاصي علم الاجتماع الدكتور محمد جريبيع إلى أنه لا شك أن الأحداث الأخيرة التي شهدتها الأردن، بالإضافة إلى تطورات الإقليم بشكل عام، تفرض على الدولة إعادة صياغة خطابها، ليكون موجها إلى جميع أفراد المجتمع، مع التركيز على الشباب الأردني، باعتباره ركيزة الثقة الاجتماعية في البلاد.
ويؤكد جريبيع أننا بحاجة اليوم إلى خطاب واع، يخاطب العقل، ويرتكز على الهوية الوطنية الأردنية والأمن الوطني، ويدحض الافتراءات ويثبت الحقائق، بحيث يكون خطابا منطقيا عقلانيا يساهم في حماية الشباب من التأثر بالأحداث المحيطة التي قد تؤثر على تفكيرهم ومستقبلهم.
كما ينبه جريبيع إلى أننا نشهد مؤخراً انتشار العديد من أشكال الخطاب عبر مواقع التواصل الاجتماعي، والتي قد تسهم احيانا في إثارة البلبلة وتشويه وعي الشباب. وهذا يتطلب صياغة خطاب وطني يحارب التشويه والافتراءات، ويؤسس لحالة من الوعي.
ويرى جريبيع أن الأحداث الأخيرة ستكون بمثابة خط فاصل للمرحلة القادمة، مشددا على أنه لا يجب الاكتفاء بأشكال خطابية محددة، بل لا بد من تطوير خطاب وطني عقلاني، بعيد عن العاطفة، يرتكز على المصداقية والحقائق، ويخاطب العقل بشكل مباشر مع إظهار الحقائق بوضوح.
ووفق جريبيع، مثل هذا الخطاب سيساهم في تشكيل جيل جديد من الشباب، قادر على التمييز بين الخطابات المختلفة التي توجه إليه، خاصة في ظل تعدد الخطابات التي قد تسعى كل منها إلى تحقيق أهداف متباينة، ويحذر من أن هذه الخطابات يجب ألا تتعارض مع الخطاب الرسمي الذي تتبناه الدولة.
ويخلص جريبيع إلى أن المطلوب اليوم من الدولة ومؤسساتها هو صياغة خطاب وطني راسخ، يؤسس لحالة وعي متجذرة لدى الشباب الأردني، ويعزز من قيم الهوية الوطنية، والأمن الوطني، والوحدة الوطنية، والنسيج الاجتماعي الأردني.
كيف نحصّن جيل الشباب؟
يجيب على هذا التساؤل المدير التنفيذي لمؤسسة "مجلسنا" للتنمية المجتمعية، الدكتور عبد الله جبارة، وهي مؤسسة تضم حزمة من الأنشطة والورش التدريبية المعنية بالمشاركة السياسية والحزبية المنظمة.
بقوله: "نحصن شبابنا أولا بالمعرفة، وبناء وعي نقدي راسخ يستند إلى سرديتنا الوطنية، لا إلى شعارات عابرة أو عواطف مؤقتة. المطلوب منا اليوم أن نغرس فيهم الثقة بأن الهوية الأردنية ليست مجرد رمزية، بل مشروع مستمر من العمل والبناء والتضحية، قادته قيادتنا الهاشمية منذ التأسيس.
وها نحن اليوم ندخل مئوية جديدة من التعزيز والتجديد، يقودها جلالة الملك عبدالله الثاني ولي العهد، الذي يمثل طموحات الشباب الأردني ويجسدها واقعا حيا من خلال تواصل سموه الدائم مع مختلف فئات الشباب.
ويرى الدكتور جبارة أن الخطاب العاطفي لا يقاوم إلا بخطاب معرفي صادق، متجذر في الأرض والتاريخ، يحاكي الواقع بلغة العقل والانتماء، ويرسخ قيم المسؤولية بدلا من التهويل والانفعال والمبالغة بالمغايرة.
ويؤكد أن الخطاب البديل لا ينبغي أن يكون ترفا فكريا، بل ضرورة وطنية في هذه اللحظة الحرجة؛ فنحن بحاجة إلى خطاب جديد يخاطب الشباب لا بوصفهم جمهورا فقط، بل شركاء فاعلين في تشكيل مستقبل الأردن الحديث.
هذا الخطاب يجب أن يربط بين الحاضر والمستقبل عبر فهم واع للماضي، يروي حكايتنا كأردنيين من الطرة إلى الدرة، ومن بيوت الطين إلى صروح الجامعات ومراكز الابتكار، مرورا بتاريخ الأردن السياسي العريق، ودور أجهزته الأمنية كافة بضباطها وجنودها، بحسب تعبيره.
ويشير أيضا إلى أن ملامح الخطاب الجديد تبدأ من إيمان حقيقي بأن الشباب الأردني هم رأس مال الدولة، داعيا إلى أن يكون خطابا صريحا، واقعيا، يعكس الأولويات الوطنية، من تشغيل وتعليم وتنمية وعدالة اجتماعية، ويعزز المشاركة السياسية القائمة على الوعي العميق.
وبحسب جبارة فإن الحاجة اليوم ماسة إلى سماع خطاب يليق بالوطن، لا مجرد رسائل عاطفية، بل خطاب وطني واع يعبر عن الرواية الأردنية، ويبرز إنجازات الدولة، ويرسخ دور جلالة الملك وولي العهد في تمكين الشباب وفتح آفاق جديدة أمامهم، خاصة في ظل حملهم اليوم لراية التغيير والتحديث.
إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق